حرية التعبير المشروطة في المجتمعات الغربية

الأحد 19 نوفمبر 2023 - 7:15 م
تشهد المجتمعات الغربية منذ يوم السابع من أكتوبر الماضى حملة قمع وتكميم أفواه غير مسبوقة، ضد كلّ من يتعاطف مع معاناة الشعب الفلسطينى، ويندد بجرائم الحرب التى ترتكبها دولة الاحتلال. تُلقى هذه الحملة بكثير من الشك حول أصالة قيم الحرية، وحقيقتها فى الثقافة الغربية خصوصا حرية التعبير.
فقد قمعت قوات الشرطة فى بداية الأحداث بهمجية التظاهرات التى جرت فى المدن الغربية فى فرنسا وألمانيا خصوصا، ونُزعت رموز المقاومة الفلسطينية من أعلام وكوفيات من الشوارع فى أوروبا «الحرة». لقد تعرّض أكثر من لاعب كرة قدم ورياضى للتهديد بفسخ عقودهم، ووصل الأمر إلى مطالبة بعض المسئولين الفرنسيين بسحب الجنسية الفرنسية من اللاعب كريم بنزيما لتضامنه مع غزة. أمّا وزيرة الداخلية الألمانية، فقد هدّدت بإمكانية ترحيل من أَسْمتهم «مؤيدى حماس». ناهينا عن الطلاب والأساتذة المؤيدين للقضية الفلسطينية الذين شُهِّر بهم، بوضع صورهم على لافتات الإعلانات فى جامعة هارفارد العريقة بوصفهم مؤيدين للإرهاب، كما تلقّى الطلاب العرب والمسلمون تهديدات فى أكثر من جامعة أمريكية.
تقوم منصّات التواصل الاجتماعى بدور الرقابة والسلطة فى حذف المحتوى الذى يُخالف مواقفها، حيث تتبع الجماعات الصهيونية كل من يُعارض سردية الحكومات الغربية فى الأزمة الراهنة، بهدف الابتزاز والتشهير. وقد نشر موقع «إنترسبت» الاستقصائى تحقيقات مشابهة عن القمع، والتهديد، والابتزاز، والتشهير الذى يتعرض له مؤيدو غزة والقضية الفلسطينية. وهو الأمر الذى أدى إلى تردّد بعض المشاهير والنجوم والمؤثرين فى التعبير عن آرائهم فى الأحداث خوفا من عواقب ذلك على مستقبلهم وأعمالهم، وكأن المجتمعات الغربية قد عادت إلى مرحلة المكارثية.
لم يتوقف الأمر عند التهديد ومصادرة الرأى، بل امتد إلى محاولة التجريم، حيث يسعى مشرعون فى الدول الغربية إلى سن قوانين تعاقب من يتجاسر على الخروج عن حدود حرية التعبير التى حددتها النخب الحاكمة فى الغرب، فقد تقدّم خمسة عشر نائبا فرنسيا منذ أيام بمشروع قانون سجن وغرامة لكل من ينتقد الصهيونية! وبالتزامن مع ذلك، تقدّم مشرعون أمريكيون بمشروع قانون لتجريم معاداة السامية فى حرم الجامعات الأمريكية. والأمثلة على هذه الحمّى لا تعد ولا تحصى، فمن الواضح أن كل معارض لسياسيات الغرب فى انحيازه الأعمى لدولة الاحتلال بات مستهدفا.
• • •
التجربة التى نعيش تفاصيلها اليوم مع ازدواجية معايير المجتمعات الغربية، والتحيّز لرواية دون أخرى، بل عدم قبول أى رأى آخر مخالف، تضع حرية التعبير والحرية إجمالا على المحكّ، لدرجة تشكيك البعض بوجودها أساسا، واعتبارها أحد أقنعة الثقافة الغربية التى تسقط فى أوقات الأزمات الكبرى أو الاختبارات الصعبة، أو على الأقل ينظرون إليها الآن بوصفها حرية مشروطة وليست مطلقة ومبدئية.
إن حرية التعبير أحد أهم القيّم الديمقراطية، وتشمل وسائل وصورا متنوعة مثل التحدّث والكتابة، والرسم والغناء والتمثيل، واستعمال الرموز، والصور والشعارات وغيرها من وسائل التعبير وأدواته. ومنذ عصر النهضة يؤكد الفلاسفة والمفكرون الغربيون على أهمية حرية الفكر، وحرية الرأى، وحرية التعبير، حتى أصبح مبدأ حرية التعبير مرادفا للحداثة والتنوير. ويُعد الفيلسوف البريطانى الليبرالى جون ستيوارت مِيل من أكثر المروجين لحرية التعبير، فالدفاع عنها وحمايتها وفقا لمِيل يؤدى بنا إلى الوصول للحقيقة، وإن الرأى الخطأ ربما يحمل فى جنباته بذور الحقيقة الكامنة.
وقد نصّت دساتير الدول الغربية الديمقراطية على أن حرية التعبير من حقوق الإنسان الأساسية، كما نصّ الإعلان العالمى لحقوق الإنسان الصادر عن الأمم المتحدة فى مادته التاسعة عشرة على أن: «لكلِ شخص حق التمتع بحرِية الرأى والتعبير، ويشمل هذا الحق حريته فى اعتناق الآراء دون مضايقة، وفى التماس الأنباء والأفكار، وتلقيها ونقلها إلى الآخرين، بأية وسيلة ودونما اعتبار للحدود». كما أكّدت المادة العشرين من الإعلان نفسه على: «أن لكل شخص حقا فى حرية الاشتراك فى الاجتماعات والجمعيات السلمية، كما أن ذلك التمتع بجميع الحريات يتم دون تمييز من أى نوع، ولا سيما التمييز بسبب العرق، أو اللون، أو الجنس، أو اللغة، أو الدِين، أو الرأى سياسيا وغير سياسى، أو الأصل الوطنى، أو الاجتماعى، أو الثروة، أو المولد، أو أى وضع آخر».
• • •
الجدل الدائر دائما فى سياق العلاقة بين السلطة والحرية، يدور عادة حول حدود تلك الحرية، والحدود الفاصلة بين حرية التعبير من جهة، وخطاب الكراهية، والضرر، والإساءة من جهة أخرى، وهل يجب وضع قيود للحد من تلك الإساءات والأضرار؟ وقد اتفقت المجتمعات الغربية فى التعامل مع حدود حرية التعبير، وفقا لقيم المساواة والخصوصية، والحفاظ على الأمن، ومنع التنميط، والعنصرية، والكراهية، وإلحاق الأذى بالآخرين. لذا فقد فرضت الدول عقوبات وسنّت قوانين لمن يتجاوز الحدود التى وضعتها السلطة. والأمر لا يتوقف عند حدّ العقاب القانونى، بل غالبا ما يقوم المجتمع باستنكار وإدانة التعبير عن الأفكار التى يراها غير ملائمة لقيمه وثقافته. ومن هنا يمكن فهم خوف الأفراد من التعبير عن آرائهم بصراحة، ووضع رقابة ذاتية عمّا يقال وما لا يقال. وهو ما حذر منه بقوة جون ستيوارت مِيل عندما وصفه بالتأثير المخيف لأشكال السيطرة الاجتماعية على حرية التعبير.
المفارقة هنا تتضح فى سياق ممارسات الثقافة الغربية لحرية التعبير، والشروط والقيود والحدود التى وضعتها لحرية التعبير، والتى كثيرا ما تتسم بالانتقائية والازدواجية. فبعض قيم الحداثة الغربية وأفكارها غير قابلة للشك أو المراجعة أو النقد، وأحيانا حتى الاقتراب واللمس. يمكنك التشكيك فى الإله والأنبياء والكتب المقدسة وحتى إحراقها فى الميادين العامة بحماية القانون والشرطة، ولكن لا يمكنك التشكيك فى بعض القيم والأفكار التى أصبحت محرمات فى المجتمعات الغربية، والمشكلة أنهم يريدون فرض هذه المعايير والقواعد على الثقافات والمجتمعات كلها باعتبار أن المركزية الغربية هى الحقيقة والمرجع الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه أو من خلفه!
معظم الدول الغربية قننت عقوبات لمن يُنكر أو يُشكك أو ينتقد هذه المحرمات، وفى مقدمتها «الهولوكوست»، فلا يمكن إنكارها، أو التشكيك بتفاصيلها، أو بطريقة استغلالها. ويعد أى اقتراب من الهولوكوست جريمة مادية ومعنوية، ويا ليت الأمر يتوقف عند هذا الحدّ، فالهولوكوست فعلا أمر فى غاية الحساسية، لكن المشكلة أنه بمجرد أن يقوم المرء بانتقاد دولة الاحتلال أو معاداتها، يُواجَه بتهم وادعاءات معاداة السامية، تلك التهمة الجاهزة لكل من يقاوم أو يعارض دولة الاحتلال، أو يفضح تأثير جماعات الضغط الصهيونية على سياسات الدول الغربية.

• • •

إن الفارق بين المقاومة والإرهاب يمكن أن يكون بديهيا لمعظم الناس حول العالم، لكن الأمر غير ذلك فى المجتمعات الغربية، والأخطر من ذلك أن الفرد معرض للمساءلة القانونية، والتهديد الاجتماعى فى حال دعمه أو تأييده لمن أصر الغرب على وصمه بالإرهاب، سواء كانت حركة تحرر وطنى أو مقاومة. حرية الرأى والاختلاف والتفكير الناقد غير مسموح بها مادامت الثقافة الغربية قد حدّدت لرعاياها، وباقى سكان المعمورة تعريفها الحصرى للإرهاب وغيره من المفاهيم المثيرة للجدل.
من الأمثلة الأخرى لمحرمات الثقافة الغربية المعاصرة الميول والحريات الجنسية للأفراد، وقضايا المرأة، والتمييز، فهى من الأمور التى لا يمكن المساس بها أو التعبير عن وجهة نظر الفرد حولها فى المجتمعات الغربية بسهولة، فهى بمثابة حقل ألغام على الإنسان أن يتحرى موضع قدمه بكل حرص قبل أن يخطو فيه. لا يمكن فى المجتمعات الغربية أن تعبر عن رأيك المعارض للمفهوم السائد فيما يتعلق بمثل هذه القضايا.
أمور وقضايا وأفكار كثيرة لا يمكن مناقشتها بحرية كاملة أو الاختلاف حولها فى المجتمعات الغربية، الأمر الذى يجعل حرية التعبير مقصورة على ما تؤمن به الثقافة الغربية الحداثية.

• • •

فى الختام، انتقادنا لوضع قيود وشروط على حرية التعبير فى المجتمعات الغربية، لا يعنى أننا ضد وضع حدود لخطاب الكراهية، والتحريض، والتشهير، وإلحاق الأذى والضرر بالآخرين، ولكن ضد انتقائية هذه القواعد، والتناقض والازدواجية فى تطبيقها، والتصرف على أن المركزية الغربية هى المرجع الأخلاقى الوحيد للحريات فى العالم.

مقالات اليوم

قد يعجبك أيضا

شارك بتعليقك

بوابة الشروق 2024 - جميع الحقوق محفوظة