الحرب قبل السلام.. والعنف قبل العمران

الثلاثاء 12 نوفمبر 2024 - 7:10 م

ألا ليتنى أستطيع استكمال هذه السلسلة من المقالات فى (الشروق) حول (مسارات اليقين واللايقين) فى العلاقات الدولية الحاضرة والمستقبلية؛ وإذن لتمكنت من وضع بعض نقاط على بضعة حروف، فتكون لى وللقارئ الكريم سلكا ناظما للأحداث المبعثرة أو المتبعثرة؛ وتعيننا من ثم على فهم ما استغلق من أحداث جسام.
وإن شئت ــ على سبيل المثال ــ تلخيصا مختزلا لمسير التطورات العاصفة خلال الفترة من 1950 حتى الآن، وعلى امتداد ما يقرب من خمس وسبعين عاما، لقلت إن (الحرب قبل السلام، والعنف قبل العمران). ولنضع نقطتين شارحتين: بعد ما سبق لنكمل قائلين (الرأسمال يتوحش ويفعل ما يشاء فى عالم من الفوضى الشاملة)، فهذا ما يشى به اليقين الآن.
وقد اخترنا عام 1950 بداية لأحداث ثلاثة أرباع القرن، لأنه فى ديسمبر 1949 نجحت الثورة الصينية العظمى ــ بقيادة «ماو تسى تونج» ــ فى اقتلاع رموز التوحش الاستعمارى ــ الغربى واليابانى معا، طوال نصف قرن سبق، ثم العمل على إعلان بناء أصول عصر جديد، يقوم ــ كما قال صوت الأمنيات ــ على الازدهار والعمران، وعلى السلام و«الاستقرار الآمن».

• • •
فما الذى جرى يا ترى مما نعلم أو قد لا نعلم؟ لقد أعقبت الحرب ــ الثورة الصينية، ما سمّى بالحرب الكورية من 1950 حتى 1953 تقريبا، وقامت دولتان تعكسان الصراع الناشئ بين (الغرب ــ والشرق): كوريا الشمالية وكوريا الجنوبية. الغرب كان الغرب «الرأسمالى» بقيادة الأمريكيين، والشرق هو الشرق (الاشتراكى) بقيادة السوفيتية البازغة.
وظل جنوب شرق آسيا منذئذ، مسرحا لصراع أيديولوجى عاصف بين (الرأسمالية) و(الاشتراكية)، صراع سياسى ــ عسكرى مكشوف بين الصين ومعها روسيا ــ الاتحاد السوفيتى إن شئت ــ وبين أمريكا الصاعدة، ومعها فرنسا صاحبة الماضى الاستعمارى الآسيوى الطويل. وقد أخذ ينحدر النجم الفرنسى نحو الهاوية مع أواخر الخمسينيات ومطلع الستينيات، لترث الولايات المتحدة فرنسا، سواء فى «الهند الصينية» وخاصة فى فيتنام ولاوس وما حولهما، أو فى الطوق الممتد حول شمال شرق آسيا (اليابان خاصة)، وذلك فى القطاع المتقطع من الصين الأم باسم (تايوان) ــ شبه ج?يرة فورمورا إن شئت. ومع انزواء شمس فرنسا، وصعود أمريكا، حلت هذه محل فرنسا فى التصدى لأهم بقعة مُشّعة لمسرح الحرب والعنف الجديد، أى فيتنام.
وعلى وقع انتشار وهج الأيديولوجيا الاشتراكية الآسيوية بقيادة الصين (الشيوعية)، اشتعلت حمّى التناقض المركب، عقائديا وعسكريا واقتصاديا، بين المعسكرين المتزاحمين.
وتشاء الأحداث أن يذهب ماو تسى تونج بالصين بعيدا عن حليفه الأثير ــ الاتحاد السوفيتى فى عهد ما بعد زعامة ستالين الذى رحل عام 1953؛ لتصبح الصين «الغريم» الرئيسى للسوفيت، ويظهر شعار (النزاع الصينى ــ السوفيتى) منذ 1957 ولعقود طوال.
وأما فيتنام فقد توزعت نارها (المقدسة) بين تلك الشمالية ــ الاشتراكية ــ حليفة الصين، وبين فيتنام الجنوبية التى غدت مسرحا لتداخل أمريكى عسكرى ــ فى عصر ما بعد الاستعمار الفرنسى ــ آخذ فى الاشتعال، ولا يلبث أن يهدأ حتى يعاود (الثوران)، لتقوم ما تسمى (حرب فيتنام: 1959-73).
واستمرت (حرب فيتنام) تلك حتى انتهى الأمر بعد أجل طويل، بانتصار فيتنام الشمالية، ومعها (الصين الشيوعية) ثم خضوع الأمريكيين لمنطق السلام المفروض بقوة السلاح، من خلال تسوية سلمية للصراع الممتد، عام 1973.

• • •
وفى نفس الوقت تقريبا، أخذ يُعاد تشكيل صورة مسرح (الحرب قبل السلام والاستقرار) و(العنف قبل العمران والازدهار) بقيادة رأس المال العالمى المتوحش، وبزعامة طرف بازغ ينقسم تحت رايتين: راية الشيوعية الصينية، وراية الاشتراكية السوفيتية، إن صح التعبير.
وأخذت إعادة تشكيل المسرح صورة غريبة حقا، وإن لم تكن ثمة غرابة على مسارح الأحداث الدولية، حيث نجح الثعلب (كيسنجر) وزير خارجية أمريكا، فى صنع (سلام اقتصادى) من نوع معين، مع كل من الصين والاتحاد السوفيتى فى وقت واحد. فأما مع الصين فقد استغّل ظروف الصين (الفوضوية) بعد وفاة ماو تسى تونج و(صعود عصابة الأربعة) على سدّة القيادة الصينية، ليعتنق خليفة ماو (وهو «دينج هيسياو ينج») عقيدة براجماتية خالصة بعون أمريكى زاحف. وقد رفع شعار (لا يهمّ لون القطّة ما دامت تصطاد الفئران). وتمّ التخلى رسميا عن اعتناق العقيدة المارك?ية الليبية لتقوم «صين ما بعد ماو»، وحتى الآن على كل حال، على الخلط البراجماتى بين الدور القيادى للدولة والخطة، وبين ريادة القطاع الخاص المتخذ ثوب «الشركات عابرة الجنسيات»، ذات الأصول الأمريكية والأوروبية، وليعاد بناء الاقتصاد الصينى على قوام جديد كلياً، هو ما نراه الآن ربما. وأما السوفييت فقد (ابتلعوا الطّعْم) ــ إن صحت العبارة ــ وحل التسلح وصراعه المميت مع الأمريكيين، محل الاقتصاد والتصنيع الثقيل.
وما لبث سيل الأحداث أن امتد، حتى تغلب صراع التسلح على الاقتصاد والتنمية، ودبّ النزاع داخل المنظومة السوفيتية ذاتها، ثم إذا بهذه المنظومة ذاتها تتزعزع من جوفها، وينهار الاتحاد السوفيتى ومنظومة (الاشتراكية) العالمية، فى أوروبا الشرقية خاصة، مع حلول 1990 و1991.
حينئذ أخذ عنصر جديد يطلّ، عصر ما سمى «القوة العظمى الوحيدة – Lonely Super power». إنه العصر الأمريكى الجديد منذ 1990 حتى الآن تقريبا، عصر الحرب المكشوفة، و(اللا سلام الصريح)، حيث عالم العنف والانقسام، وشيوع «اللايقين» تحت رايات ملونة شتّى، والسعى من الجميع لقتال الجميع. وقد وصل بنا الأمر الآن ــ فى لحظتنا الراهنة ــ لاشتعال ثلاث بؤر للصراع والحرب فى وقت واحد: فلسطين وأوكرانيا وتايوان.

أستاذ باحث فى اقتصاديات التنمية والعلاقات الدولية

مقالات اليوم

قد يعجبك أيضا

شارك بتعليقك

بوابة الشروق 2024 - جميع الحقوق محفوظة