التوظيف الأمريكي للكيانات دون الدول
الإثنين 11 أغسطس 2025 - 6:40 م
دأب الساسة الأمريكيون، منذ سبعينيات القرن الماضى، على ترديد شعار: «واشنطن لا تتفاوض مع الإرهابيين»، انطلاقًا من اعتبارات أبرزها أن التفاوض مع الإرهابيين كفيل بتشجيعهم على الإمعان فى ممارسة الإرهاب، كما يمنح المنظمات الإرهابية شيئًا أشبه بشرعية البقاء التى تعطيها القدرة على استقطاب مزيد من المقاتلين أو اجتذاب المريدين والمتعاطفين، ناهيك عن عدم قناعة الإرهابيين أصلًا بجدوى الحوار أو التفاوض.
فى مقال نشرته مجلة فورين بوليسى الأمريكية، فى سبتمبر 2018، بعنوان: «هل حان وقت السلام مع داعش والقاعدة؟!»، سلطت مارثا كرينشاو، كبيرة الباحثين فى مركز الأمن والتعاون الدولى بمعهد فريمان سبولى، وأستاذة العلوم السياسية بجامعة ستانفورد، الضوء على ما أسمته «محدودية الخيارات فيما يتعلق باستئصال الإرهاب ودحر الإرهابيين». وانطلاقًا من واقعية هذا الطرح، لم يجد مسئولون أمريكيون مناصًا من تجاهل مبدأ عدم التفاوض مع الإرهابيين.
بحلول مارس 1973، اضطرت إدارة نيكسون إلى التفاوض مع حركة أيلول الأسود الفلسطينية، بعدما احتجزت رهائن داخل السفارة السعودية بالخرطوم، بينهم السفير الأمريكى لدى السودان، كليو نويل، ونائب رئيس البعثة، كورتيس مور، مع القائم بأعمال السفارة البلجيكية. وما إن طلبت الحركة آنذاك الإفراج عن أسرى فلسطينيين فى السجون الأمريكية والإسرائيلية والأردنية، حتى رفض الرئيس نيكسون الانصياع لذلك المطلب، متذرعًا بعدم قبول واشنطن الابتزاز، وهو ما ردت عليه الحركة على الفور بقتل المحتجزين.
وفى مطلع تسعينيات القرن الماضى، أجبرت إدارتا بوش الأب وكلينتون، إسرائيل على التفاوض مع منظمة التحرير الفلسطينية، رغم تصنيفها سابقًا منظمة إرهابية، وصولًا إلى إبرام اتفاقيات أوسلو معها عام 1993. وبعد قرابة عقدين من الاحتلال والحرب العبثية، اضطرت إدارة ترمب عام 2019 إلى دعوة ممثلين عن حركة طالبان الأفغانية إلى مفاوضات تهدف إلى التوصل لاتفاق سلام معها. وخلال مارس الماضى، ورغم حرصها على تفادى الخوض فى محادثات مباشرة معها كونها تصنف حركة إرهابية منذ عام 1997، انخرطت واشنطن فى مفاوضات مع حركة حماس، بغية استعادة أسير إسرائيلى ــ أمريكى حى، يُدعى آلى ألكسندر، وأربعة موتى آخرين. وبينما شنت إسرائيل حملة انتقادات واسعة ضد واشنطن، ردت الأخيرة بالقول: «إن الولايات المتحدة ليست وكيلًا لإسرائيل، وإن لديها معايير محددة تلتزم بها».
تؤكد الولايات المتحدة دومًا التزامها بمبادئ: الاعتراف بالدول فقط، والامتناع عن دعم التطلعات الانفصالية لأى كيانات داخل الدول القائمة والمعترف بها، مع التمسك بسياسة احترام سلامة أراضى الدول الأخرى ورفض أى محاولة لتفتيتها بالقوة أو بدعم الحركات الانفصالية. ورغم ذلك، لم تتورع واشنطن عن توظيف تلك الكيانات فى بقاع شتى من العالم لبلوغ مآرب استراتيجية.
فخلال عام 2008، دعمت إدارة أوباما انفصال كوسوفو عن صربيا. وفى شمال سوريا، تعاونت القوات الأمريكية المرابطة هناك مع قوات سوريا الديمقراطية ذات النزعات الانفصالية والتوجهات الاستقلالية، ابتغاء مكافحة «داعش»، ومحاصرة النفوذ الروسى، وتقويض نظام بشار الأسد، وتعزيز النفوذ الأمريكى فى مناطق حلب، الحسكة، دير الزور، والرقة، التى تضم أبرز موارد الثروات السورية من حقول النفط والقمح. وضمن مساعيها لتعزيز نفوذها الجيوسياسى فى منطقة القرن الإفريقى، وكبح جماح الحوثيين فى باب المندب وخليج عدن، ولجم التغلغل الصينى والروسى والإيرانى هناك، قدمت واشنطن الدعم العسكرى لما يسمى «جمهورية أرض الصومال» غير المعترف بها دوليًا، وكذلك لولاية بونتلاند.
دون تنسيق مع مقديشو، تعكف واشنطن على تدريب قوات الأمن فى بونتلاند، كما ينفذ الجيش الأمريكى منذ سنوات ضربات جوية دورية ضد «داعش» أدت إلى القضاء على عدد كبير من مقاتليه، كما ساعدت قوات بونتلاند على انتزاع 250 كيلومترًا مربعًا تضم قواعد عسكرية تابعة للتنظيم. وفى مايو الماضى، زودت إدارة ترامب ولاية بونتلاند بمقاتلات وطائرات استطلاع أمريكية، مع تدريب عناصر مختارة من قوات الأمن التابعة للولاية على تشغيلها، بذريعة دعم جهودها فى مكافحة التنظيمات المتطرفة، خصوصًا «داعش». ومع تنامى قدرات الأخير ونفوذه فى القرن الإفريقى، تعهد ترامب فى أبريل الماضى بمواصلة دعم جهود الولاية فى محاربته، الأمر الذى يهدد وحدة الصومال وسيادته واستقراره، ذلك أن امتلاك بونتلاند مثل هذه الأسلحة قد يفتح الباب أمام سباق تسلح فيدرالى بين الولايات.
لطالما كان إقليم أرض الصومال الانفصالى، الذى لا يحظى باعتراف دولى منذ انفصاله عن جمهورية الصومال الفيدرالية عام 1991، محط اهتمام العديد من القوى الإقليمية والدولية، بحكم موقعه الاستراتيجى عند نقطة التقاء المحيط الهندى بالبحر الأحمر، وإطلالته الممتدة على خليج عدن بطول 740 كيلومترًا، ومضيق باب المندب الذى يمر عبره نحو 12% من التجارة العالمية. ولما كانت الولايات المتحدة تشعر بقلق بالغ حيال تنامى نفوذ الصين فى القرن الإفريقى، لاسيما بعد تشييدها قاعدة عسكرية فى جيبوتى وسعيها لإقامة أخرى فى إريتريا، تلح دوائر أمريكية فى المطالبة بالاعتراف بأرض الصومال، حتى يتسنى لواشنطن مراقبة وردع التهديدات المنبعثة من اليمن أو بقاع أخرى فى المنطقة.
فرغم توقيع اتفاق مايو الماضى مع الحوثيين لإنهاء هجماتهم ضد السفن الأمريكية فى البحر الأحمر، مقابل وقف الضربات الأمريكية ضد الجماعة، تدرس إدارة ترامب حلولًا مستدامة لمحاصرة الحوثيين واستئصال تهديداتهم المتواصلة للملاحة البحرية. وفى هذا السياق، برز الحديث عن إنشاء قاعدة عسكرية أمريكية بمدينة بربرة فى أرض الصومال، وأخرى فى بونتلاند، لتكونا نقطتى ارتكاز استراتيجيتين فى حملة واشنطن الأوسع ضد الحوثيين، خصوصًا بعدما رفضت جيبوتى السماح للأمريكيين بتنفيذ عمليات هجومية من قاعدتهم على أراضيها، مخافة التعرض لهجمات انتقامية من الحوثيين.
تتطلع واشنطن إلى إبرام اتفاق تطبيع بين إسرائيل وأرض الصومال، التى تفاقم الاهتمام الإسرائيلى بها منذ بدء عمليات الحوثيين ضد إسرائيل، حيث ترنو إلى إقامة قاعدة عسكرية فى أرض الصومال تخولها شن ضربات استباقية ضد الحوثيين، كما تتوق لإقناعها باستقبال أعداد من فلسطينيى قطاع غزة الذين تنوى إسرائيل ترحيلهم قسرًا، مقابل الاعتراف الرسمى بأرض الصومال وضخ مزيد من الاستثمارات إليها.
عقب الانتخابات التى شهدتها أرض الصومال فى نوفمبر الماضى، راج الحديث عن إمكانية اعتراف واشنطن باستقلالها. وفى مارس 2025، أكدت صحيفة فاينانشيال تايمز الأمريكية انخراط إدارة ترامب فى مفاوضات مع قيادة أرض الصومال بشأن اعتراف واشنطن بها، مقابل بناء قاعدة عسكرية أمريكية بمدينة بربرة الساحلية الاستراتيجية على خليج عدن. وفى حوار مع بلومبيرج، أكد رئيس الإقليم استعداده لاستضافة قاعدة عسكرية أمريكية بمدينة بربرة، مع إغراء ترامب بصفقة موارد معدنية تتضمن الليثيوم، والحديد، والقصدير، والأحجار الكريمة، والمعادن الصناعية، والجبس، والأسمنت، والذهب، وذلك فى مقابل الاعتراف الأمريكى باستقلال الإقليم.
بكل حسم، حذر الرئيس الصومالى من تداعيات أى تحرك أمريكى لدعم أو الاعتراف بأقاليم صومالية انفصالية، مؤكدًا رفض مقترح إقامة قاعدة عسكرية أمريكية بأرض الصومال، أو طرح خطة توطين الفلسطينيين هناك، بما يمثل انتهاكًا لوحدة أراضى الصومال وتقويضًا لعلاقاته مع الولايات المتحدة. كذلك، قوبل التقارب الأمريكى مع بونتلاند باستياء من قبل الحكومة الفيدرالية الصومالية، التى تعارض أى تعاون عسكرى بين الولاية وأى قوة دولية دون الرجوع إلى مقديشو، معتبرة إياه مساسًا بسيادتها الوطنية.
تستشعر دوائر أمريكية تداعيات سلبية لانفتاح واشنطن المريب على أقاليم صومالية انفصالية، لما لذلك من ضرر على العلاقات والمصالح الأمريكية مع العديد من الدول الإفريقية، والاتحاد الإفريقى، والهيئة الحكومية الدولية المعنية بالتنمية (إيجاد)، حيث يرى القادة الأفارقة فى هذا الالتفاف الأمريكى سابقة خطيرة تُقوض الأعراف السياسية والمبادئ القانونية المؤسسة للعلاقات الدولية المستقرة. ولعل هذا ما دفع الرئيس ترامب، أواخر يناير الماضى، إلى امتصاص الغضب الصومالى والإفريقى، عبر إعلان رفضه الاعتراف بإقليم أرض الصومال الانفصالى؛ حيث أكد المتحدث باسم الخارجية الأمريكية التزام واشنطن باعترافها التاريخى بسيادة وسلامة أراضى جمهورية الصومال الفيدرالية داخل حدودها المعتمدة منذ عام 1960.
مقالات اليوم
قد يعجبك أيضا