x قد يعجبك أيضا

رواية الجغرافيا عند صبرى موسى

الأربعاء 9 أبريل 2025 - 5:23 م

رحلتنا اليوم فى روايتين من أدب الجغرافيا، للأديب المصرى صبرى موسى (1932–2018) وهما «فساد الأمكنة» و«السيد من حقل السبانح».
فساد الأمكنة
يمكنك أن تقرأ هذه الرواية مرة كل عام، أو مرة كل شهر، أو كل عقد من الزمن، ولعل قراءة واحدة تبقى فى ذاكرتك تستحضرها دوما، ولذلك أسباب عدة. فالعنوان غريب لا يتوقعه العارفون بالبيئة، فالأماكن لا تفسد من تلقاء ذاتها. وحقيقة الأمر أن الطبيعة لم تخلق مكانا فاسدا، ربما تقابلنا بضع برك ومستنقعات آسنة، أو معاطن فى الغابات والأحراش تؤدى دورها المتكامل فى النظام الإيكولوجى، لكن الأماكن على عمومها لا تفسد إلا بفعل فاعل، وقد أعطى صبرى موسى لروايته عنوانا غامضا غائبا بدلا من أن يسميها بوضوح مباشر «إفساد الأمكنة» حتى ينجو من أن يكون للرواية عنوان التقرير الصحفى.


والأمكنة التى تتناولها هذه الرواية هى مساحة ضخمة من أرض مصر، تشغل الصحراء الشرقية، وسميت الشرقية لأنها إلى الشرق من وادى النيل، وكانت تسمى فى العصور الأقرب «صحراء العرب» لأن ساكنيها من القبائل العربية، وفى عهد قدماء المصريين كانت تسمى مع بقية الصحراوات المصرية باسم «دِشِرت» أى الأرض الحمراء، تمييزا لها عن أرض الطين «السوداء» فى وادى النيل ودلتاه. هذه الصحراء تمتد من حدودنا مع السودان فى الجنوب إلى شرق الدلتا والقاهرة فى الشمال ومن البحر الأحمر إلى وادى النيل.
وسبب «إفساد» الأمكنة هنا هو سياسى اقتصادى أو زواج كل منهما معا، حيث اشترك النظام الملكى مع رجال الأعمال الأجانب ووكلائهم من علية القوم المصريين فى استهلاك ثروات معدنية من الصخور النارية التى فى عمق هذه الصحراء، سواء كان الذهب بشكل مباشر، أو نوع صخرى شهير (السربنتين) يستخرج منه حجر التلك الذى يدخل فى بودرة التلك الشهيرة وبقية مستحضرات التجميل وبعض الأدوية.
تبنى المؤلف موقفا معاديا لسيرة آخر ملوك مصر وساق دعاية مكشوفة ضد النظام الملكى. لم يقل المؤلف إنه يتحدث عن الملك فاروق بالاسم، لكن القارئ يفهم ذلك ضمنا. يأتى الملك خصيصا إلى الصحراء الشرقية فى رحلة أسطورية، ويختار أجمل فتاة (ابنة بطل الرواية)، رجل التعدين الأجنبي، يطلب هذه الفتاة التى يشتهيها الجميع لتكون رفيقته خالصة له فى رحلة إلى جبل إلبا (علبة)، وهناك فى هذا الجبل المقدس يلتهم فاكهة الفتاة البكر فى ليلة من ليال الملك الباذخة، تاركا الفتاة خلفه محطمة لا تصلح لأحد.

وفق الرواية، فإن الملك أيضا لا يشبع إلا بعد أن يطلب التسلية والتمثيل من أحد أبناء الساحل فى هذه الصحراء، فيطلب منه أن يضاجع واحدة من جنيات البحر فى مشهد تمثيل حقيقى أمام الحضور. يفشل الفتى فى المضاجعة العلنية مع السمكة الضخمة فى حضور الملك والحاشية، يقع الجميع فى ضحك ساخر مع الملك، ليموت الشاب ذلا ومهانة.
الاستخراج التعدينى من الذهب والموارد النادرة تخرج من هذه الصحراء للأجانب والباشوات فى القاهرة، بدلا من أن يحصل عليها أبناء تلك الصحراء. صبى واحد من أبناء البشارية يعرف السر المقدس ويحاول أن يعيد سبيكة الذهب التى تم استخراجها إلى روح الأسلاف، هناك فى جبل إلبا (علبة Elba) مستحضرا أرواح الأجداد الأولى التى عاشت هنا وقدسها أهل الصحراء قبل وصول الأديان السماوية الأحدث عمرا.
الدرهيب هو اسم الصحراء التى تجرى فيها الأحداث، وهو مسرح كل الوقائع، والدرهيب اسم جبل، واسم منطقة فى جنوب الصحراء، واسم نطاق وتخوم حدودية بين مصر والسودان، تكاد كل جنوب الصحراء أن تكون درهيبا. لا أحد يستطيع أن يجيبك اليوم عن المعنى الأصلى فى لغة البشارية عن معنى كلمة «درهيب» وستبقى فى ذاكرتك بعد إتمام قراءة الرواية بمعنى «الرهبة» والـ«رهيب».
صدرت الرواية فى عام 1973 وهى صالحة دوما كمحفز للتعرف على جغرافية جنوب شرق مصر.. حلايب وجبل إلبا (علبة) Elba والمؤيدون لنظام يوليو 1952 سيرون فى الرواية شيئا أيديولوجيا مقبولا ومبررا لقيام الثورة، والذين لديهم موقف متحفظ على هذا النظام سيرون الرواية دعاية مباشرة لتشويه النظام الملكى وتمجيد النظام الجمهورى.
وفى خضم هذا التحيز السياسى لا يجب أن يفقد القارئ أهم ما فى الرواية وهو البناء الفنى والأدبى وتفرد اللغة والتحرك الديناميكى عبر الأمكنة الجغرافية الفريدة.
السيد من حقل السبانخ
هذه واحدة من الروايات غير المشهورة لصبرى موسى. ظهرت أول مرة فى حلقات بمجلة صباح الخير الأسبوعية التى تصدر عن مؤسسة روز اليوسف، وذلك خلال الفترة من 1981 و1982.


والطبعة التى بين أيدينا جمعت فى كتاب لأول مرة فى عام 1987 عن الهيئة المصرية العامة للكتاب.
تتألف الرواية من 230 صفحة مقسمة على 9 فواصل، والمسرح الجغرافى لهذه الرواية هو الربع الشمالى الغربى من الكرة الأرضية، الذى نجا من خراب الأرض بعد حرب نووية أهلكت معظم بنى البشرية.
زمن الرواية غير واضح تماما وإن كان فى عصر ما فى المستقبل، ربما بعد قرن ونصف من زمن تدوين الرواية. ومن ثم فهى فانتازيا أو خيال علمى بصيغة أدبية وأقرب إلى فيلم سينمائى عن حياة المستقبل.
تستهل الرواية بمشهد الشخصية الرئيسة الذى سيحمل طيلة الرواية اسم «رجل السبانخ». وتبدأ المشاهد بخروج هذا الرجل من العمل فى أجواء مزدحمة مع العمال من حقل الاستنبات الضوئى؛ حيث ينتجون أكواما هائلة من أوراق السبانخ الخضراء التى يتم تصديرها عبر صواريخ عابرة للقارات إلى بقعة أخرى من المعمورة البشرية الحديثة.
يركب عمال حقل السبانخ سيارات هوائية تطير فى الفضاء وتسقطهم واحدا واحدا فوق الأبراج السكنية عبر كبسولات هوائية تطلقها المركبة الكبرى التى تقلهم.
فى بيوتهم هذه يشرب الناس أقراص البيرة المذابة وهم يشاهدون نشرات إحصائية عن العالم، لا يحتاج الناس إلى طعام كثير أو بشكل متكرر، فقد ثبت لهم أن طرق تناول الطعام فى العصور السابقة أضرت بصحة الإنسان وجعلته يعيش فقط إلى عمر 70 سنة وليس إلى عمر 150 سنة كما هو الآن.
يحقق الناس هنا عملية الزواج وفق نظام وجداول وتواريخ ترتبها اللجنة المحلية لتنظيم المجتمع. ولا يمكن لأى أسرة الإنجاب إلا وفق جدول زمنى تحدد مواعيده وتواريخه هندسة النظام الاجتماعى فى اللجنة المركزية للدولة.

يقرأ الناس كتبا قديمة فى شكل ملفات صوتية ناطقة، ليس لديهم مؤلفات معاصرة لأنه لا أحد يؤلف كتبا فى هذا الزمن، إذ انقرضت مهنة تأليف الكتب فى ذلك العصر. بعد أن يعود من عمله ينتظر رجل السبانخ زوجته بعد عودتها من العمل فيمارس معها الحب ويشاهدا التلفاز وينقطع النور المركزى لينام الجميع فى موعد محدد، الكل ينام فى توقيت واحد ويصحون للعمل فى توقيت واحد. هذه الحياة الرتيبة المتكررة كل يوم تدفع رجل السبانخ لأن يفكر أن يخرج عن نظامها الممل فيقرر ذات يوم ــ بعد أن قتله السأم والملل- أن يتخلف عن النظام.
بعد أن أنهى عمله فى حقل السبانخ لم ينضم لطوابير المركبات الطائرة عائدا للبيت بعد العمل، بل ترك نفسه فى المدينة يجرى ويقفز ويطوح ذراعيه، يحاول أن يسلم على الناس لكنهم لا يلتفتون إليه فى مسيرتهم النظامية الآلية. وبعد أن حقق رغبته بالحرية وكسر النظام إذ به يشعر أيضا بالسأم والضيق والملل من النظام الدقيق فى كل شىء فى شوارع المدينة، حتى إنه ابتهج حين وجد شارعا منعطفا متعرجا خلافا للشوارع المستقيمة. وحين أراد العودة إلى بيته اكتشف أن ذلك مستحيل، فكل الناقلات الهوائية لها مواعيد عمل، ولا يمكن أن يستقل أى مركبة فى أى وقت وفق هواه. ولم يكن أمامه سوى أن يبيت فى العراء إلى موعد اليوم التالى فيدخل مع الداخلين من العمال إلى حقل السبانخ وفى نهاية اليوم يعود للبيت وفق النظام المعتاد.
وحين شعر بالحزن والوحدة تناول قرصا من حبوب البهجة فتحسنت أحواله المزاجية قليلا. لكن حين عادت زوجته من العمل ولم تجده أخبرت اللجنة المركزية للدولة التى بحثت عنه عبر كاميرات المراقبة والشاشات الرقمية التى ترصد كل شىء إلى أن تم العثور عليه، وبدأ التحقيق معه بتهمة الرغبة فى العودة للماضى!
خلال موقفه المعارض للحياة التى سلبت الإنسان روحه وجعلته آلة منظمة، تمضى الرواية فتعرض جميع أشكال الحياة فى المستقبل البشرى. يظل رجل السبانخ إلى آخر الرواية رافضا الانضواء لنظام الحياة الآلية وفى نفس الوقت غير قادر على العودة للزمن الماضى الذى ترفضه الدولة الحديثة وتراه زمنا متخلفا.


ولعلى هنا أضع ثلاث ملاحظات:
لا يمكن إنكار أن قراءة الرواية تعيد إلى الذهن الرواية العالمية الشهيرة «1984» للكاتب الإنجليزى جورج أورويل والتى سبق فيها بالوصف خضوع الإنسان للآلة والرقابة والشاشات العملاقة. لكن الفارق هنا أن أورويل كان مهموما بالنظام البوليسى والقمع السياسى بينما اهتم صبرى موسى بعبودية النظام الآلى واستلاب الروح من الإنسان. وهما صورتان مكملتان لبعضهما البعض.
لا يمكن أن نضع هذه الرواية فى نفس الخانة التى وضعنا فيها رواية صبرى موسى العظيمة «فساد الأمكنة». ورغم أن «السيد من حقل السبانخ» جاءت بعد 10 سنوات من «فساد الأمكنة» إلا أن الرواية الأقدم بها الواقعية الساحرة والبانوراما المجتمعية والأنثروبولوجية والزيارات الميدانية فى مقابل الفانتازيا الأقرب لتقارير الخيال العلمى فى حالة «السيد من حقل السبانخ». وفى كل حال، هذه الرواية أيضا لها خصوصيتها ولغتها وأفكارها.
صدرت حلقات هذه الرواية قبل 42 سنة، ولابد حين نقيمها أن نقيمها وفق التاريخ الذى كتبت فيه، لأننا لو قيمناها اليوم سنرى تقنيات الخيال العلمى فيها متواضعة بالمقارنة بالثورة التكنولوجية الحديثة والكم الهائل من المعارف التى صارت متراكمة لدينا بفعل النقلات المعلوماتية النوعية، لكننا سنقدر لها أسبقيتها فى التنبيه والتحذير من سقوط الإنسان فى فلك الآلة وتحوله إلى كائن منظم للغاية، رقمى للغاية، وبعيد جدا عن «الإنسان».

مقالات اليوم

قد يعجبك أيضا

شارك بتعليقك

بوابة الشروق 2025 - جميع الحقوق محفوظة