هل تعتبر العلوم الإنسانية علمًا مثل العلوم التطبيقية؟
الإثنين 3 يونيو 2024 - 6:35 م
منذ القرن السابع عشر، استخدم بعض الكتاب كلمة «العلم» فقط للإشارة إلى العلوم التطبيقية (علوم الحياة، والفيزياء، والهندسة، والكيمياء، والرياضيات)، ورفضوا تصنيف الدراسات الإنسانية ضمن التخصصات العلمية، لتصورهم أنها لا تلتزم بالموضوعية والأساليب العلمية التقليدية، وأنها تميل إلى التأثر بالمشاعر الإنسانية مثل العواطف، والخيال، والذكريات، والحدس، والمعرفة الفطرية.
للتوضيح، تتضمن الدراسات الإنسانية علم الاجتماع، والسياسة، والاقتصاد، والفلسفة، والأخلاق، والدين، والتاريخ، بما فى ذلك تاريخ العلوم، وعلم اللغة، والأدب، وتعلم اللغة، والفن بأنواعه المختلفة بما فى ذلك الموسيقى والفنون المسرحية والفنون الجميلة والحرف اليدوية٠
فى القرن التاسع عشر، استخدم مصطلح «اللاعلم» للدراسات الإنسانية لتمييزها عن العلوم التطبيقية، والتى كانت تسمى أيضًا «العلوم الصلبة»، بينما كانت الدراسات الإنسانية تسمى «العلوم الناعمة». ولا علاقة لهذا التصنيف بصعوبة أو جدوى مجالات الدراسة، بل بمدى الدقة العلمية فى أساليب البحث الخاصة بها. واقترح الفيلسوف الألمانى «مارتن مانر» تسمية الدراسات الإنسانية بالتخصصات المجاورة للعلم «parascience» لأنه لا يمكن اختبارها بالطرق العلمية التقليدية، ولكن يجب تمييزها عن العلم الزائف pseudoscience الذى يقدم معلومات خاطئة.
اعترض الفيلسوف النمساوى «بول فييرابند»، على الجهود المبذولة لتصنيف المعرفة إلى «علم» و«لا علم»، واعتبر هذا التمييز مصطنعا، ولا يوجد سوى القليل من الارتباط بين جميع أنواع التخصصات التى تسمى «العلوم». وأوضح فيلسوف العلوم الأمريكى «توماس كون» أن الحدود بين «العلم» و«اللاعلم» مبنية على دوافع اجتماعية وأيديولوجية ولا تمثل فرقا صارخا بينهما، والاعتقاد بأن المعرفة العلمية (مثل علم الأحياء) أكثر قيمة من أشكال المعرفة الإنسانية (مثل علم الأخلاق) هو تعالٍ أطلق عليه مصطلح العلموية scientism.
حاليا، يعتبر المصطلح الألمانى فيسنشافت (Wissenschaft) أكثر دقة وشمولا من المصطلح الإنجليزى science أى علم لأنه يشير إلى كل الدراسات الإنسانية والعلوم التطبيقية بالإضافة إلى المنح الدراسية، والبحث العلمى، والتعليم العالى، والأوساط الأكاديمية. وفى حين أن المصطلح الألمانى «فيسنشافت» يشمل جميع الأنشطة الأكاديمية، فإن المصطلح الإنجليزى «العلم» يعانى من محدودية شديدة فى الإشارة إلى كل الجهود المعرفية، كما يعتبر البعض أن اللغة الإنجليزية غير مناسبة لدراسة نظرية المعرفة «epistemology»، التى يشيع فى مناقشتها مصطلحات من اللغة اللاتينية والألمانية.
الإجابة على السؤال عنوان المقال؛ هل تعتبر العلوم الإنسانية علما مثل العلوم التطبيقية؟ إن الدراسات الإنسانية هى علوم تلتزم بمعايير موضوعية، وأسلوب بحث يقلل من أى تحيزات بشرية سابقة. وإدراك منهجية وموضوعية الدراسات الإنسانية أمر ضرورى لفصل جميع الأنشطة العلمية الأكاديمية عن العلوم الزائفة مثل علم التنجيم، والتصوير الكيرليانى Kirlian photography أو التصوير الكهربائي، وعلم الباراسيكولوجى والخوارق paranormal، بالإضافة إلى الممارسات الطبية الهراء مثل علاج المثلية الجنسية أو استخدام عقارات لعلاج أمراض دون أدلة علمية وقد تكون ضارة بالصحة وغيرها من الممارسات التى تقدم ادعاءات كاذبة، ولمنع انتشار هذه الممارسات لا بد من تطوير الثقافة العلمية ونشرها.
فى الختام، نقدم علم التاريخ كمثال لتوضيح المنهجية العلمية فى الدراسات الإنسانية، وقد يساهم هذا الاختيار فى الرد على الاتهامات الشديدة التى وجهت مؤخرا لعالم مصريات مشهور فى محاولته الصادقة لتوضيح موقف علم التاريخ تجاه تفاصيل غير حقيقية حول قصة خروج الشعب اليهودى من مصر ورحلتهم الشاقة عبر صحراء سيناء. وسنبدأ أولا بتوضيح أن كلمة تاريخ تعود إلى المصطلح اليونانى estoria أو historia الذى يعنى جمع المعلومات عن أحداث هامة من الماضى. ويعتمد توثيق التاريخ على الدراسة المنهجية للوثائق، والسجلات، والمحفوظات، والنقوش القديمة، والحفريات. ويستخدم علماء الآثار التأريخ بالكربون المشع لتحديد تاريخ المخطوطات القديمة والحفريات بدقة. تتضمن المنهجية العلمية فى دراسة التاريخ القديم؛ دراسة الحفريات Paleontology، ودراسة الكتابة اليدوية التاريخية Palaeography ، وكذلك استخدام التنقيب الجيوفيزيائى، وغيره من التكنولوجيا الحديثة. ويعتبر «علم الآثار» إحدى الركائز العلمية اللازمة لدراسة التاريخ من خلال التحليل المنهجى لبقايا المواد مثل الأدوات والفخار والأشياء الاحتفالية والنفايات الغذائية، وهذا ضرورى بشكل خاص فى دراسة الثقافات التى ليس لديها لغة مكتوبة. وتلتزم أعمال التنقيب فى المواقع الأثرية بالإزالة المنهجية للتربة والآثار، مع جمع وتسجيل وتحليل ورسم خرائط المعلومات المتعلقة بكل طبقة من طبقات التربة والقطع الأثرية المرتبطة بكل طبقة، والتى تدل عن أنماط السلوك البشرى فى الماضى، وهذا أمر ضرورى لفهم التغير فى سلوك الإنسان مع مرور الوقت، وتطور الأنشطة المختلفة مثل الزراعة، والكشف عن أسباب انهيار الحضارات الكبرى.
ومن ثم فإن الدراسات الإنسانية هى علوم حقيقية وليست «لا علم»، ولا يجوز الاستهانة بموضوعية هذه الدراسات وصدقها. وإن المعرفة بمختلف أنواعها ومصادرها الملتزمة بقوانين وقواعد موضوعية، كلها وسائل لاكتشاف حقائق العالم المحيط بنا بصدق، بعيدا عن أى تحيزات مسبقة. وتهدف هذه الجهود العلمية إلى تحسين حياه الإنسان وحمايته من مخاطر الوجود سواء من المرض أو غضب الطبيعة.
مقالات اليوم
قد يعجبك أيضا