نساء الأحلام والكوابيس

السبت 2 أغسطس 2025 - 9:15 م

بارعةٌ حقًّا هذه الرواية فى رسم نماذجها النسائية التى تعانى اغترابًا وقلقًا وفشلًا فى الخارج وفى الوطن. ومع أن كل واحدة من بطلات الرواية الأربع لا تخلو من موهبة وذكاء وحساسية عالية فى الشعور بالذات وبالآخر، فإنهن يعانين من ظروفٍ غير مواتية، تستلزم أثمانًا لا يستطعن دفعها أو الإذعان لها.
الرواية الصادرة عن دار الكتب خان بعنوان «بالحبر الطائر» لمؤلفتها عزة رشاد، تحكى عن نجوى ونادين ونسمة ونعيمة، صديقات الدراسة فى الإسكندرية ورفيقات الأحلام الضائعة، اللاتى ابتعدت بهن المسافات، ولكن نعيمة تعثر على زميلاتها، وتنشئ لهن مجموعة دردشة تحمل رائحة الذكرى، تسميها «جروب فور إن»، استدعاءً لاسم الفريق الغنائى الشهير.
تختبر نعيمة لعبة الماضى والذاكرة مع زميلاتها، وتحاول أن تجذبهن للمشاركة فى مشروعها الخيرى، وتدعوهن للعودة إلى الإسكندرية وتنظيم لقاء مباشر بعد سنوات طويلة من الفراق.
يبدو ــ لأول وهلة ــ أننا أمام حيلةٍ ذكية لاكتشاف أحلام وكوابيس جيل بأكمله، ثم نتقدم خطوةً أخرى فى العمق، عندما تُضاف إلى الحكايات غربة المكان والبشر، حيث تعيش نجوى فى نيويورك، وتعيش نادين فى باريس، وتعيش نسمة فى لندن.
وبينما نظن أن نعيمة ستقوم بدور العين المحايدة التى ترصد وتراقب وتحكى، بعد أن خصصت ملفات فى جهاز الكمبيوتر لحكاية كل صديقة، فإن نعيمة نفسها ستصبح تنويعة جديدة على ثنائية الحلم والكابوس، لأن أزمتها الغامضة هى التى ستربط حكايات زميلاتها، وكأن الجميع فى ورطة، سواء من هربن إلى الخارج، أو من بقين فى بلدهن.
تتحوّل محنة نعيمة، وبقاؤها فى الغيبوبة بعد ضربةٍ على رأسها، إلى «صحوة» بوح وفضفضة بأصوات نجوى ونادين ونسمة. وتصبح دعوة العودة إلى الإسكندرية، التى تتعثر بسبب ظروف الكريسماس، أو نتيجة وباء الكورونا، بابًا واسعًا يخرج منه الماضى بأكمله، وتواجه كل واحدة من صديقات الأمس حياتها ونفسها بكل جسارة. ويظل سؤال الرواية والحكايات هو: لماذا صارت النتيجة صفرًا كبيرًا رغم الجهد والمحاولة؟
يجمع بين الشخصيات الأربع صعوباتٌ هائلة فى التكيف، وألمٌ نفسىٌّ وجسدىٌّ، ونظرةٌ ذكورية تطارد المرأة حتى فى بلاد الغربة، واختباراتٌ صعبة على مستوياتٍ متعددة، وأقنعةٌ تخفى وجوهًا مشوّهة، سرعان ما تسقط. ورغم أن الشخصيات الأربع ليست ضعيفة، فإنها تظل منقسمة ومرتبكة وقلقة وغير متحققة، وكأنها تشقى بوعيها وقوتها وأحلامها، ولا يبقى لها سوى ذكريات الإسكندرية، ولحظات المرح، ومشاكسات رفيقات الدراسة والأحلام.
ورغم أن الحياة فى مجتمعٍ آخر، مثل الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا، تصنع مشكلاتٍ إضافية، لاختلاف القيم والمفاهيم، خاصةً فيما يتعلّق بتربية الأبناء والبنات، فإن البقاء فى الوطن لم يحقِّق للمرأة أيضًا أى مستوى من التحقّق أو السلام الداخلى. لذلك تبدو غيبوبة نعيمة، وحياتها المضطربة مع زوجها وابنها، عنوانًا لأزمة تتجاوز المكان والبلد، وتتعلق أساسًا بالعلاقة مع الرجل، ومع الظروف المحيطة بالنساء، فى كل زمان ومكان.
بجانب ثنائية «الحلم والكابوس»، تستخدم المؤلفة عزة رشاد ثنائية التماسك والتفكك فى اكتشاف عوالم «الفور إن»، فكل شخصية تحاول أن تتماسك وهى تبنى شخصيتها وتنسج حياتها، ولكن سرعان ما يتفكك هذا العالم، وتجد نفسها معلّقة فى الفراغ:
الدكتورة نعيمة تزوجت من المناضل الثورى حسام، ولكنه لم يعد مناضلًا أو ثوريًّا، والابن ناجى منفصل عنهما فى عالمه. لم يبقَ لنعيمة سوى الجروب، ورعاية القطط، ومشروع خيرى لحماية البنات، لا يمكنه أن يستوعب كل الحالات، فيتفكك الحلم إلى مرض جلدى، وحياة على حافة الموت.
نجوى، حاملة ميراث القرية وأساطيرها، تطاردها صورة مختلسة مع حبيبها، أفسدت حياتها فى الإسكندرية. فلما تزوجت وانتقلت إلى نيويورك، تركت ابنتها المنزل للزواج بحبيبها الأمريكى، فصارت نجوى أسيرة عالمين وأزمتين، لا يمكنها الفضفضة إلا لطبيبتها النفسية أو لزميلات الجروب.
نادين، حكايتها أكثر تعقيدًا: عاشقة الغناء والموسيقى، صارت محجبة فى فرنسا، تعيش حياة تقليدية وسط الجالية العربية. ابنها المتمرد يرفض هذا الازدواج، ولا يفهم أن تهاجر أسرة مصرية لتعيش حياة محافظة فى فرنسا، فيريد حياةً حرةً منطلقة، ويهرب إلى الإدمان. تصبح نادين فى مواجهة قرارٍ من زوجها يعيدها هى وابنتيها إلى الإسكندرية؛ منطق الزوج هو حماية البنتين من أخطار باريس، ولكن نادين تقرّر أن تعيد النظر فى حياتها كلها.
نسمة، الذكية الدءوبة، تعانى من متلازمة ترنر، مرض جينى يؤخّر نموها، ويجعلها قصيرة القامة، وأبعد ما تكون عن المواصفات الجسدية المغرية، كما أنها مهددة بمتاعب فى القلب. ولكن فرصة النجاة تتحقق بحصولها على منحة من جمعية بريطانية لرعاية البنات المريضات بمتلازمة ترنر.
حياتها قبل السفر وبعده مرتبطة بعلاقاتٍ غريبة: طبيب تزوجها باعتبارها حالة نادرة، ومهاجر باكستاني ارتبطت به، ثم اكتشفت أنه متزوج فى بلده، ثم ناشط بريطانى ضد العولمة، اكتشفت علاقته المثلية مع زميلٍ له. ستوافق رغم ذلك على الزواج منه صوريًّا، بينما تخوض أيضًا حربًا أخرى فى مصر لانتزاع ميراثها من شقيقها الذى استولى على حقها الشرعى.
فى مهب الريح، ومثل الحبر الطائر الذى يزول مع الوقت، سيتم سرد حكايات الأحلام والكوابيس، على أمل لقاءٍ لن يتم، وفى انتظار مصير غيبوبة نعيمة، منشئة الجروب، وعبر سرد ابنها ناجى عنها، ودون أى وعدٍ بنهاية سعيدة أو كئيبة، وإنما هى نماذج نسائية على الحافة من كل شىء، وفى مفارق طرق تؤدى إلى كل الاتجاهات، ووفق ظروفٍ عامة وخاصة، موضوعية وشخصية، تم تطريزها بحرفة شغل الإبرة، وببقايا ذكريات وأغنيات وحكايات ودموع.
ربما كان من الأفضل أن يكون عنوان كل فصلٍ باسم صاحبته، وربما كان من الأفضل الاكتفاء بصوت نجوى وحدها دون صوت ابنها ناجى، ولكن الرواية تظل ــ مع ذلك ــ من أفضل الأعمال التى ترجمت محنة إيزيس المعاصرة، التى تحاول أيضًا أن تلملم أشلاء نفسها، لا أشلاء أحبّائها فقط.

مقالات اليوم

قد يعجبك أيضا

شارك بتعليقك

بوابة الشروق 2025 - جميع الحقوق محفوظة