أزمة المثقفين كما رآها جلال أمين - عبد الله السناوي - بوابة الشروق
السبت 20 أبريل 2024 1:40 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

أزمة المثقفين كما رآها جلال أمين

نشر فى : الأحد 30 سبتمبر 2018 - 10:00 م | آخر تحديث : الأحد 30 سبتمبر 2018 - 10:00 م

وهو فى الحادية عشرة من عمره تابع عام (1946) بقدر ما أمكنه أن يستوعب ميلاد واحد من أهم الأجيال السياسية فى التاريخ المصرى.
إنه جيل عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية ونداءات التحرر الوطنى والعدل الاجتماعى.
كان تمرد ذلك الجيل على القوى التقليدية والأفكار القديمة، تعبيرا عن شىء جديد يوشك أن يولد فى مصر.
بحكم سنه فى ذلك الوقت لم يكن جزءا من حركة الجيل الجديد لكنه تأثر به عميقا وطويلا حتى داهمه ما جرى فى (23) يوليو (1952).
«فى عام ١٩٥٤ لفت نظرنا أهمية جمال عبدالناصر لأول مرة، ولكن بشكل سلبى لا إيجابى، وذلك عندما عرفنا بخلافه مع محمد نجيب، حيث انضممت شعوريًا وأغلبية جيلى بلا تردد، ليس فقط لأننا كنا نعتبر محمد نجيب وليس عبدالناصر هو زعيم الثورة، وبسبب خوفنا على هذه الثورة من الضياع، ولكن لأن قضية الخلاف كما فهمناها وقتها، كانت حول الديمقراطية واستمرار الجيش فى الحكم، أو عودته إلى ثكناته، وكنا بالطبع مع الديمقراطية والحرية، كنت وقتها فى السنة الثالثة فى كلية الحقوق، واعتصمنا فى قاعة الاحتفالات بجامعة القاهرة، رافضين الخروج حتى يعود نجيب إلى الحكم، وخرجنا فى مظاهرات لتأييده، الأمر الذى انتهى بعودة نجيب بالفعل إلى الحكم وسحب استقالته، ولكن هذا الوضع لم يستمر إلا أيامًا، كما هو معروف وسمعنا خلالها بضرب الدكتور السنهورى، رئيس مجلس الدولة فى مكتبه، انتصارًا لسياسة عبدالناصر ضد نجيب. فأصابنا الغم الشديد، ولا أستطيع أن أصف شعورى نحو عبدالناصر وقتها بالحب، بل كانت الحقيقة هى العكس بالضبط. بدا شعورى نحو عبدالناصر يتغير فى ١٩٥٥ مع ظهور بوادر شىء جديد جاد كان يسمى الحياد الإيجابى، والذى اقترن بذهاب عبدالناصر إلى مؤتمر باندونج، وعقد صفقة الأسلحة التشيكية ـ كما كانت تسمى وقتها ـ وبلغ حماسى، وحماس جيلى لعبدالناصر منتهاه بسماعنا تأميم قناة السويس فى ١٩٥٦، حيث لم تعادل فرحتنا بهذا التأميم إلا فرحتنا بقيام الثورة قبل أربع سنوات».
«عندما عدت من البعثة فى ١٩٦٤ لم يكن لدىّ أى شك فى صحة اتجاهات عبدالناصر وفلسفته، وقد تبينت فيما بعد، عندما ظهرت الأرقام وأمكن النظر إلى تطور مصر الاقتصادى، أن ما كان يحدث فى مصر اقتصاديًا واجتماعيًا بصرف النظر عن مشكلة الديمقراطية منذ ١٩٥٦ وحتى ١٩٦٥، كان أفضل ما مر فى تاريخ القرن على الأقل، لم نكن فى ذلك الوقت نرى إلا الجزئيات، ولكن حياتنا اليومية كانت تعكس هذا التطور الرائع فى حياة مصر».
لقد حدث أوسع حراك اجتماعى سمح لأعداد غفيرة من الطبقات الدنيا ظلت محرومة قرونًا طويلة بالترقى فى جودة الحياة ومستويات المعيشة والصعود إلى سطح الحياة، والانتفاع بثمرات التنمية والتعليم والتقدم.
أهمية تلك الشهادة أن صاحبها ليس ناصريًا.
كما أنه يتميز بحس نقدى لا يدارى ما يعتقد فيه.
هكذا أطل فى يناير (2002) على ما أسميت مطلع ستينيات القرن الماضى بـ«أزمة المثقفين».
المثقف هو من يمتلك ـ بالاطلاع والاجتهاد ـ القدرة على استيعاب حقائق الموقف العام وبناء رؤى وتصورات ومواقف على قدر من التماسك.
بهذا التعريف العام فهو واحد من أهم المثقفين المصريين فى العقود الأخيرة وأكثرهم تأثيرا بقدر وضوح أفكاره واختياراته.
المثير أن تأثير عميد الأدب العربى الدكتور «طه حسين» عليه أكثر بما لا يقاس بتأثير والده المفكر الإسلامى الكبير «أحمد أمين».
بعد انقضاء أيام «يوليو» وجد نفسه أمام صياغة جديدة لأزمة المثقفين ـ حملات ممنهجة عليهم وتجفيف للمنابر الثقافية وشيوع قيم تناقض ما يعتقد فيه.
فى ذلك الوقت دأب الرئيس الأسبق «أنور السادات» على وصفهم بـ«الأفندية».
لم يكن الدكتور «جلال أمين» تنظيميا ولا رجل سياسة بالمعنى المتعارف عليه، لكنه بدا واضحا فى الإلمام بالحقائق الأساسية لأزمة المثقفين الجديدة.
بدا «المثقف الخائن» أحد تجليات الأزمة.
سقطت أقنعة وتهاوى رجال فيما ظهر على السطح «المثقف المهزوم»، وهو حالم وممزق ومنكسر.
أمام تلك التحديات تبلورت شخصيته الفكرية وتبدت قيمة إسهاماته وصلابة موقفه كمثقف.
كان من أوائل الاقتصاديين المصريين الذين عارضوا «الانفتاح الاقتصادى» وضرب مشروع التنمية المستقلة وركائزه الاجتماعية والسقوط تحت الهيمنة الأمريكية.
وكان من أوائل الذين التفتوا إلى ما يحدث فى المجتمع المصرى من تغيرات وانقلابات اجتماعية وثقافية حتى اكتسبت كتاباته طابع المراجع المعتمدة، رغم أنه بالتخصص ليس عالم اجتماع.
عبقريته فى قدرته على التقاط الظواهر من عاديات الحوادث، كأنه مؤرخ اجتماعى يحاول أن يشرح «ماذا حدث للمصريين؟» بتحليل يمزج بين روح الباحث المدقق فى الظواهر وطبيعة الفنان الذى ينفذ إلى جوهرها.
بقراءة ما فى تجربته هناك ثلاث شخصيات أثرت بعمق فيه.
الأول ـ الأستاذ «أحمد بهاء الدين»، وقد تشاركا الأفكار العروبية والاجتماعية والثقافية نفسها، كلاهما له رأى وموقف ومستوى من الالتزام مع تجنب بقدر ما هو مستطاع الدخول فى صدام سياسى.
والثانى ـ أمير القصة القصيرة «يوسف إدريس»، وهو أقرب إليه فى ذائقته الأدبية وروح التجريب والمخاطرة الفنية من «نجيب محفوظ» بكل إسهاماته الكبرى.
فى كتاباته المتناثرة، وأغلبها لا يضمها كتاب، نوع من الافتتان بعالم «يوسف إدريس»، وكما يحدث فى المعارضات الشعرية كتب على نسقه تعليقا مطولا عن مقتل لاعب سيرك بمخالب النمر «محسن»، كما فعل «إدريس» فى «أنا سلطان قانون الوجود»، عندما قتل الأسد «سلطان» مدربه قبل أن يموت حزنا عليه.
والثالث ـ الروائى البريطانى «جورج أورويل» بعوالمه المقبضة التى تنتهك كل قيمة إنسانية وأية عدالة اجتماعية، ترددت استعاراته وانتقاداته فى كتابات «جلال أمين»، كأنه يرى فيها ما يستحق التحذير منه.
باختلاف العصور أخذت أزمات المثقفين صورا عديدة حتى وصلنا إلى «الانكفاء«»، وهو وضع خطر يحرم البلد من قوته الناعمة وقدرته على تجديد الفكر والروح.
ربما أحزنت آخر صور أزمات المثقفين المفكر الكبير قبل أن يغادرنا.