شوارع وأمكنة وأسماء - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 1:44 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

شوارع وأمكنة وأسماء

نشر فى : الجمعة 29 ديسمبر 2017 - 9:05 م | آخر تحديث : الجمعة 29 ديسمبر 2017 - 9:05 م
للشوارع حكايات ولكلّ ركنٍ فيها وحجر؛ ما يشي بقصة، وما يُدلِّل على واقعة، وما يُسجِّل حدثًا. أسماءُ الشوارع نفسها حكايات؛ سلاطين وملوك، ورودٌ وأشجار، أبطالٌ حقيقيون وأساطير. مِن الأسماء ما يظلّ ثابتًا على مرّ العصور، تمضي سنون وعقود وربما قرون؛ فلا تمَسّه أو تهينه، بل تزيده رسوخًا واستقرارًا. مِن الأسماء أيضًا ما يخضع لعوامل التعرية السياسية؛ فيختفي بغتة بفعل فاعلٍ، ومنها ما يبهت بريقه تلقائيًا وتفتر حكايته؛ فيتلاشى، ويُمسي وكأن لم يكُن. 

***

منذ أسابيع قليلة، تغيَّر اسمُ شارع آل حمد الثاني، ببولاق الدكرور، ليصبح شارعَ الشيخِ إبراهيم نافع، بقرارٍ مِن المُحافظ. قيل إن التغيير جاء بناءً على طلبات مُتكرِّرة، تقدم بها أهالي المَنطقة، مُعترضين على ارتباط اسم الشارع بعائلةٍ عربيةٍ حاكمةٍ في إحدى الدول؛ الشقيقة سلفًا، المَنبوذة السَّاعةَ . في الأسبوع ذاته، طاف خبرٌ عن تغيير أسماءِ عشرات الشوارع في تركيا، لاعتبارات مُتباينة؛ إذ مَسَحَت بلدية اسطنبول أسماءَ الشوارع التي تحوي كلمةَ ”جولن“، كي تُبعد عن الأذهان اسم عبد الله جولن؛ الرجل المُتهم بتدبير انقلابٍ فاشلٍ على السُلطة الحالية. مَسَحَت أيضًا كل ما يحوي كلمة ”قنديل“؛المُرتبِطة باسم مَنطقة جَبلية، تتمركز فيها قواعد حزب العمّال الكردستاني، وهو الحزب الذي يتهمه النظامُ التركي الحاكم بمُمارسة الإرهاب.

***

جزءٌ بسيط مما يصنعه المُنتصِر بالتاريخ؛ أن يُعيدَ كتابته وتشكيله وصوغه وفقًا لما يحب، ولصالح ما يعتنق. لا يتوقف الفِعل على اسم شارع أو مَنطقة، بل يمتد إلى تفاصيل الحياةِ كافة؛ ما يدرسُ التلاميذُ في مدارسهم، والطلابُ في جامعاتهم، وما تضمُّ الوثائقُ والأبحاثُ والتسجيلات. لا يقتصر الأمرَ على دولة دون أخرى، ولا يختصُّ مَنطقةً جغرافية بعينها؛ إنما يرتبط بطبيعة المنتصر، وبمدى سيطرة نظامه وشموليته، أو للدقة؛ يرتبط بمَبلَغ سعيه كي يكون شموليًا مسيطرًا. 

***

شوارع كثيرة تتغير أسماؤها، يتوه بينها مَن لا يحفظ خريطةَ المَنطقة، ويعرف شعابَها ومُستجداتها. أحيانًا ما يكون للمحو والتبديل سببٌ ظاهر، وفي أحيان أخرى يبدو بلا دافع يبرره. تحمل بعضُ الشوارع لافتةً واحدةً تضمُّ اسمين؛ السابق والحالي، وأحيانًا تحملُ أكثر مِن لافتة بأسماءٍ مُختلفة، وربما تسقط عنها اللافتاتُ تمامًا أثناء التغيير. يبقى الاسمُ القديم ملتصقًا بذاكرة الناس في غالبية الأحوال، حتى وإن لم يكُن مكتوبًا. في جاردن سيتي شوارع عديدة تحظى بأكثر مِن اسم، ومِن قاطني الحيّ وحرّاس عقاراته؛ مَن يحتفظ بذاكرته الأولى ويرفض الاعتراف بالطمسِ والتعديل والإضافة؛ يسألُ السائلُ فلا يجد ردًا ينقذه من الحيرة، إلا أن يستعين بصاحب العنوان مُهاتفة، فيدله على علامة شهيرة، عاندت الزمن وأفاعيل أهله، وصمدت على حالها.
***

أذكر أن الشارعَ الذي اعتدت المرورَ فيه يوميًا، منذ التحقت بالمدرسة ثم الجامعة، قد تبدَّل اسمُه بين عشية وضحاها، صحا السكان مُنذ سنوات خلت، وقد نُقِش الاسم الجديد على لوحة معدنية داكنة الزرقة، وأحاط به إطار أبيض رقيق. كررت الاسم المُستَحدَث على نفسي مرات ومرات، وحاولت حفظه؛ لكني لم أفلح في العثور عليه بذاكرتي كلما أردت استرجاعه، لم يكن له مِن أثر.

***

مِن شارع إلى ناصية إلى ميدان؛ يتكرر الأمر ويُعاد. جرت منذ فترة قصيرة مُحاولة لتغيير اسم ميدان ”رابعة العدوية“، ومثلها مثل محاولات أخرى شبيهة، لم تُحرِز نجاحًا مذكورًا. أسمع بين الحين والآخر تبَّاعي الميكروباص ينادون: رابعة.. رابعة، وأرى على حافلاتِ النقلِ العام اسمَ محطة رابعة، ولا يعرف سائقوا سيارات الأجرة سوى ميدان رابعة، ويبدو أن محاولة التغيير هذه لم تلق هوى لدى بعض الناس، الذين يملكون صورة ذهنية إيجابية لرابعة العدوية؛ المتصوفة الزاهدة، الغارقة في أطياف العشق الإلهي.

***

على العكس من ميدان رابعة العدوية؛ حقق تحويل اسم مَحطَّة ”مبارك“ إلى مَحطَّة ”الشهداء“ شيئًا من النجاح؛ راح قسمٌ مِن الناس يدعوها بالاسم الجديد، وقليلُهم بالاسم القديم، فيما أبى قسمٌ آخر ذِكرَ هذا أو ذاك؛ فاستخدم في الإشارة إلى المَحطَّة مَعلمًا مَعروفًا، لا يُسبِّب حرجًا ولا ضغينة. لا شك أن تبديل اسمِ المَحطَّة، قد صادف هوى في نفوس مَن أوجعهم حكمُ مبارك؛ هؤلاء الذين يمثّلون النسبةَ العظمى مِن مُستخدمي المواصلاتِ العامة، الساعين فيها وبينها سعيًا لا ينقطع. منذ أيام أطلَّ مبارك في لوحات المَحطَّة الإرشادية من جديد. قيل إن إدارةَ المرفق بريئة، وإن الشرطة تبحث الأمر.

***

الشيء بالشيء يُذكَر، وإذا جاء حديثُ المحطات، فلا مناص مِن ذِكر ”باب الحديد“؛ العنوان الذي به يتمَسَّك كبار السنّ، إيماءً إلى محطَّة القطار الكائنة في منطقة رمسيس. تسمية قديمة وربما مُضحكة لمن لم يعايشها، لكنها مَحفورةٌ في الأذهان، وربما كان لفيلم يوسف شاهين الشهير الذي حمل الاسم ذاته، دور في استبقاء التسمية، وتخليدها على الألسنة رغم مرور عقود طويلة.

***

أحيانًا ما تتسبب لافتات الشوارع في مشاجرات وخصومات ومقاطعات؛ كان شارع ”خالد الإسلامبولي“ في إيران عاملًا من عوامل التنافر بين القاهرة وطهران، فالاسم هو لواحد مِن المتهمين بقتل الرئيس المصري؛ أنور السادات. قررت إيران إزالة الاسم عام ألفين وواحد، لتضع مكانه اسم ”محمد الدرة“؛ شهيد فلسطين، وانتظرت أن ترد القاهرةُ بالمثل، فتحذف مِن شوارعها أسماءَ مَن يكرههم النظامُ الإيرانيّ. مَرت الأيام ولم تنصلح العلاقاتُ بين البلدين.

***

يُقال في مسألة المَحو والاستبدال؛ إن المصريين القدماء مِن مَرتبة الحكام، دأبوا على مَسح أسماءِ سالفيهم وكتابة أسماءَهم مكانها؛ إقلالًا مِن أثرِ مَن سبق، وإعلاءً مِن شأن ذواتهم وإنجازاتهم الشخصيّة. ذهب اسمٌ وجاء آخر، انمحى رسمٌ وانطبع آخر؛ تبقى الذاكرةُ الشعبيةُ حاضنةً للتاريخ الحقيقيّ، كاشفةً لما مرَّ على صفحات المكان.

 

بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات