سينما برجمان.. ميكروسكوب ينظر إلى الداخل - محمود عبد الشكور - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 10:53 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

سينما برجمان.. ميكروسكوب ينظر إلى الداخل

نشر فى : الخميس 29 نوفمبر 2018 - 10:40 م | آخر تحديث : الخميس 29 نوفمبر 2018 - 10:40 م

فى أحد مشاهد فيلم «فراولة بريّة» الذى كتبه وأخرجه المخرج السويدى الفذ إنجمار برجمان، يحلم البروفيسور إيزاك بورج الذى سيتسلم درجة علمية رفيعة فى الكيمياء، وهو فى الخامسة والسبعين، بأنه ما زال طالبًا يمتحنه أستاذ كبير، يأخذه الممتحن إلى ميكروسكوب، ويطلب منه أن يصف ما يراه خلال عدسته، يندهش البروفيسور الذى يظهر فى الحلم بعمره الكبير، ويقول للممتحن: «لا شىء»، يبدو الحلم الطويل كذكرى مؤلمة، من أول الفشل فى الإجابة عن أسئلة الامتحان، وصولًا إلى تذكر البروفيسور لخيانة زوجته له.
ربما يصلح مشهد الميكروسكوب فى الفيلم الذى عرضته البانوراما الأوروبية، مع ثلاثة أفلام أخرى لبرجمان، مفتاحًا لفهم أفلام المخرج الكبير، حيث تبدو كما لو كانت نظرة بالميكروسكوب إلى دواخل شخصياته، وليس إلى الخارج، وبينما لا يجد البروفيسور شيئًا يمكن رؤيته، فإن ميكروسكوب برجمان، وهو فى الحقيقة كاميرته وعدساتها، يكتشف أشياء معقدة ومتداخلة من الأفكار والأسئلة، إلى العواطف والغرائز، من الصرخات والهمسات، إلى مشاعر حقيقية بالذنب، من الخوف البدائى من المجهول بالموت، إلى الأقنعة التى نعيش بها، بعيدًا عن شخصياتنا الحقيقية.
مشكلة المشاهد لأفلام برجمان هى انخداعه بالتفاصيل الظاهرية المتقنة، فالمخرج الكبير صانع دراما محترف قادم من المسرح، لا يتنازل عن بناء شخصياته بشكل متقن، ويستفيض فى الحوار، وفى المونولوج أحيانًا، يستفيد من أدوات المسرح، ولكن يوظفها سينمائيًّا، فلا يمكنك أن تغمض عينيك لتسمع الحوار فحسب، تعبيرات الممثلين مهمة جدًا، والانتقالات المونتاجية دقيقة للغاية، ولكن هناك أعمق من خلق شخصيات فى موقف أو مواقف، إنها تلك النظرة الأعمق من الداخل، ووسيلته الأهم «الأحلام»، والتى تتحول أحيانًا إلى كوابيس.
المعنى ليس فى الموقف، ولا فى الألعاب السردية كما فى فيلم «برسونا» حيث يتم كسر الإيهام، وحيث يبدأ الفيلم بفيلم قصير من لقطات سريعة، وحيث لا تستطيع أن تحدد ما هو واقعى وما هو حلم فى علاقة ممثلة مسرحية صمتت فجأة، بالممرضة التى ترعاها، المعنى فى الشعور الذى يصل إليك، والأسئلة والقلق الذى تصدره لنا الشخصيات، والتى ليست فى حقيقتها سوى أقنعة يرتديها برجمان، ليعبر عن حيرته هو، وليطرح من خلالها أسئلته الوجودية.
فيلم «الختم السابع»، مثلًا، كتبه برجمان تحت شعور جارف بالخوف من الموت، لعبة الشطرنج بين الفارس الصليبى الذى عاد من الحرب بعد عشر سنوات، وبين ملاك الموت صاحب العباءة السوداء، ستنتهى أخيرًا بانتصار الموت، ولكن الأسئلة حول وجود الله، والبحث عن الشيطان والشر لن تتوقف، وهناك تحية واضحة يوجهها برجمان لفنان السيرك صاحب الرؤية الكاشفة، والذى يرى الموتى يرقصون، فى مقابل مقاطع سفر الرؤية الكابوسية التى نسمعها، وحمل الفيلم اسمه من عبارة فيها، فكأن الإنسان الفنان يواصل الإنجاب، وصنع الحياة، فى مقابل قوة غاشمة قاسية، لا تقنع إلا بتدميره.
هنا تصبح النظرة أعمق إلى الفكرة والإنسان، ولذلك تبدو الدرجة العلمية التى حصل عليها البروفيسور فى «فراولة برية» لا شىء على الإطلاق، فى مقابل اكتشافه لذاته خلال الرحلة بالسيارة لماضيه، ومواجهته لهذا الماضى، وهناك مشهد شهير له وهو ينظر فى مرآة تمسكها زوجة ابنه، الجائزة الأهم فى الفيلم هى اكتشاف الداخل بالميكروسكوب، وليس اكتشاف ما تحت ميكروسكوب الامتحان، فى مواجهة البروفيسور جثته فى التابوت، ومراقبة ماضيه بنفسه، فيصبح جزءًا من اللقطة، ويسقط قناعه أخيرًا فى النهاية، فيبتسم.
فى «برسونا»، يستخدم برجمان أكثر أجهزة الميكروسكوب تعقيدًا، ننظر إلى أعمق مناطق الألم والذنب، يبدو الإنسان معذّبًا (بفتح الذال وبكسرها!)، وتشهد السينما، ويشهد المسرح حيث مسرحية «أليكترا»، على المأساة الوجودية، أم تجهض ابنها، وأم تهرب من ابنها، هروبا من الذنب أم من بؤس العالم؟
لعلهما امرأة واحدة بوجهين، أو ممثلة تلعب دورين، يتمزق القناع ويتهشم، نكتشف ذواتنا المعقدّة من خلال ما نراه، هل تراها خلية انشطرت؟ أم خليتين اندمجتا بعد صراع؟
تحت ميكروسكوب برجمان العجيب يبدو الإنسان كتلة واحدة؛ عقلًا وعاطفة، ماضيا وحاضرا، حُلما وواقعا، وعيا ولا شعور، ترجمة مذهلة لشخصياتنا وأقنعتنا المتداخلة، وترجمة أكبر لعقل فنان عظيم لم يتوقف أبدًا عن السؤال.

محمود عبد الشكور كاتب وناقد سينمائي وأدبي مصري
التعليقات