الصفوف الخلفية - نيفين مسعد - بوابة الشروق
الثلاثاء 16 أبريل 2024 6:24 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الصفوف الخلفية

نشر فى : الخميس 29 نوفمبر 2018 - 10:40 م | آخر تحديث : الخميس 29 نوفمبر 2018 - 10:40 م

وقفتُ أمام مكتبتي حائرة لا أعرف نبتدي منين الحكاية، الكتب والمجلات والأوراق صنعت جبلا هائلا لا يختلف كثيرا عن جبل التوباد الشهير إلا في أنه جبل من سطور وكلمات فيما جبل قيس وليلى كان جبلا من رمال وذرات عشق لم تقو عليها رياح الزمن.
***
من فترة طويلة كانت تراودني فكرة ترتيب المكتبة وكنت أرجئها، لكن جاءت اللحظة الحاسمة عندما وجدت أنه عدا الصف الأول من المكتبة فإنني فقدت الاتصال بكل الصفوف الخلفية، لم أعد أدري ماذا يختبئ في هذه الزاوية أو تلك وماذا تحجب عني الصدارة من كتب وروايات. هكذا وجدتني كلما احتجت كتابا أشتريه حتى لو كنت واثقة أنه يوجد في مكتبتي، فالوصول إليه بهذه الطريقة كان يبدو أسهل. على أي حال استعنت على الشقاء بالله وقررت أن أبدأ المهمة العسيرة بيدي لا بيد عمرو فليس عمرو بمسعفي، وبدأت رحلة البحث في الصفوف الخلفية للمكتبة، ويالروعة ما وجدت .
***
هاهي أوراق الورد لمصطفى صادق الرافعي أو رسائل غرامه تلوح لي من وراء الصف الأول ، تعلقت بها وأنا صبية لم أزل أحاول أن أفك طلاسم لغة الضاد بدأب وعناد، أسرني هذا الإبهام والتردد النبيل الذي كان عليه حال الرافعي ما بين البوح بحبه وبين إبهامه، حرك خيالي مشهد حبيبة الرافعي وهي تتلقى رسائل حبيبها منشورة في كتاب ليصير سرهما على المكشوف، أثار فضولي أن مشاعر الرافعي تعددت وجهاتُها فاتجهت صوب امرأة بعينها تارة وصوب امرأة أخرى تارة ثانية، هل هذا ممكن؟ ليس مع الجميع فمن الناس من توجد بصمة لمشاعرهم كبصمة اليد أو العين التي لا تتغير، جبران خليل جبران مثلا لم يكن كذلك وحين تكسرت أجنحته لم يعاود بعدها الطيران أبدا. اخترت التمثيل بجبران لأن قلمه من أكثر ما أحببت من الأقلام في المهجر. على أي حال متى أحب الرافعي فقد صدّقته، أما قوله "كلما ابتعدْتُ في صدّها خطوتين رجع إليّ صوابي خطوة "فكان الأجمل في الجمع بين اتساع الرؤية وضيق العبارة فالهجر يُغضِب صاحبنا بالتأكيد لكن تدلهه يبقي مسافة ما بين عقله وقلبه. نفضتُ الغبار عن أوراق الرافعي ورسائله ووضعتهم في الصدارة .
***
أعلى قليلا من مستوى باقي الكتب لكن أيضا في الخلف بدا كتاب أنبياء الله لأحمد بهجت في ثاني طبعة له عام ١٩٧٣ كأنما يشب ليقول نحن هنا، هذا الكتاب آل إليّ من مكتبة والدي الذي دوّن على صفحته الأولى اسمه عبد المنعم مشفوعا بلقب بك .. أحب جدا هذا الخط وأكاد أجزم أنه كُتِب بالقلم إياه الذي طالما اختلسته لأختبر قدرتي على الكتابة بالحبر الأزرق. على كثرة ما أُلّف من قصص عن الأنبياء فإن كتاب أحمد بهجت يعطيك الانطباع أنه يكبر معك وأنك في كل مرحلة من مراحل عمرك تفهمه بطريقة مختلفة، في البداية يبهرك جانب التشويق في قصص الأنبياء وليس من إثارة تطغى على حياة يونس في بطن الحوت، ثم تكبر فيأسرك صبر أيوب وبر إسماعيل وعلم الخضر، وعندما تكبر أكثر يراودك الأمل في أن تكون من بين الناجين على سفينة نوح لتبحر وإياهم إلى بر السلامة. هكذا تعرّف والدي على كتاب أنبياء الله ومن بعده تعرفت عليه أنا ثم أولادي فأحفادي، كل جيل يوصي به مَن بعده وكأنه بات وديعة تنتقل من يد لأخرى ومن عقل لعقل. أفسحت مكانا لكتاب أحمد بهجت بجوار كتاب الرافعي.
***
في هذه الزاوية البعيدة كانت تنحشر مجموعة من السير الذاتية من تلك التي يقال عنها أدب السجون، سير لمثقفات أمثال فريدة النقاش ونوال السعداوي وصافيناز كاظم تتكرر في عناوينها كلمة السجن وإن كان عنوان فريدة هو الأوجع، لم يحدث أن استخدمت أفعل التفضيل من قبل للدلالة على الوجع لكن هأنذا أفعل ذلك مع فريدة النقاش وأنا أستعيد عنوان كتابها "السجن الوطن". هذه السير الذاتية أعطانيها الأستاذ مصطفى نبيل عام ٢٠٠٤ لأكتب عنها مقالا لمجلة الهلال حين كان رئيس تحريرها، وكتبت المقال فعلا ومن بعدها ظل يطالبني الرجل برد كتبه وأنا أماطل، كنت أخجل من ردها إليه وقد دوّنت عليها ملاحظاتي حتى رحل، له في عنقي هذا الدَين وحين أضع كتبه في الصدارة فإنني أعتذر .
***
فيما بين الكتب صادفت أشياء ضحكت منها واستغربتها واشتقت إليها، خطاب بدون تاريخ يعتذر لي فيه ابني عن أنه تعثر في المقعد دون قصد منه، بالطبع لا أذكر الواقعة لكن الأرجح أن ابني حين تعثر أسقط إحدى التحف فاعتذر.. يا من كنت صغيري هوّن عليك فليس أبسط من تحطيم التحف. سلسلة مفاتيح مجهولة لا أدري أي أبواب تفتح بالضبط ولعل أحدها يفضي بي يوما إلى مغارة كمغارة علي بابا .. ياريت. أوتوجراف كتب لي فيه أهل ومدرسون وأصدقاء ورسموا لي قلوبا كثيرة بعضها ما زال ينبض حتى اليوم. أوراق نتيجة كلها ليوم ٢٢ نوڤمبر في أعوام مختلفة، في هذا اليوم ولد أبي. أشياء وأشياء لا رابط بينها رحت ألملمها من هنا وهناك ثم وضعتها في علبة صغيرة كتبت عليها عبارة "كنوز قديمة" ودفعت بها للأمام .
***
اكتشفتُ أن الكتب والأشياء التي كانت في صدارة مكتبتي ليست الأقيم بالضرورة وأني ما وضعتها حيث هي إلا من باب الكسل لا أكثر، وتلاقيتُ عند الصفوف الخلفية للمكتبة مع درر حبيبة إلى قلبي وعقلي فوجدتني أنصفها وأرد لها اعتبارها، وهكذا وكمثل الباب الدوّار تبادَلَت الصفوف الخلفية مواقعها مع الصفوف الأولى فإذا بالكتب والأشياء الخلفية تتألق وتلمع بعد أن زال عنها الغبار و... التجاهل أيضا.

نيفين مسعد أستاذة بكليّة الاقتصاد والعلوم السياسيّة جامعة القاهرة. عضو حاليّ فى المجلس القوميّ لحقوق الإنسان. شغلت سابقاً منصب وكيلة معهد البحوث والدراسات العربيّة ثمّ مديرته. وهي أيضاً عضو سابق فى المجلس القوميّ للمرأة. حائزة على درجتي الماجستير والدكتوراه من كليّة الاقتصاد والعلوم السياسيّة – جامعة القاهرة، ومتخصّصة فى فرع السياسة المقارنة وبشكلٍ أخصّ في النظم السياسيّة العربيّة. عضو اللجنة التنفيذية ومجلس أمناء مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت. عضو لجنة الاقتصاد والعلوم السياسية بالمجلس الأعلى للثقافة. عضو الهيئة الاستشارية بمجلات المستقبل العربي والسياسة الدولية والديمقراطية
التعليقات