الحلقة المفقودة فى قصة الديمقراطية المصرية - عبد العظيم حماد - بوابة الشروق
السبت 20 أبريل 2024 4:55 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الحلقة المفقودة فى قصة الديمقراطية المصرية

نشر فى : الخميس 28 سبتمبر 2017 - 9:15 م | آخر تحديث : الخميس 28 سبتمبر 2017 - 9:15 م
فى مقال الأسبوع الماضى تحدثنا عن الشرط الذى يراه الأب المؤسس لدراسات التحول الديمقراطى فى العالم دنكوارت روستو لازما لنجاح النظم العسكرية فى عموم الشرق الأوسط، بعد أن كان قد وافق فى كتاب شهير له على أن استيلاء الجيوش على السلطة فى بلدان تلك المنطقة هو مسلك طبيعى فى بعض مراحل التاريخ، ومنطوق هذا الشرط هو «أن النجاح النهائى يعتمد على قدرة النظام على إقامة، أو السماح بإقامة مؤسسات مدنية دستورية تحد مستقبلا من التدخل العسكرى».
كتاب روستو الذى نشير إليه هو دور العسكريين فى السياسة والمجتمع فى الشرق الأوسط، وصدر عام 1963، بعد دراسة معمقة لهذا الدور على امتداد المنطقة، مع تركيز خاص على تركيا، ومع أن الكتاب يعد قديما نسبيا، فإنه يظل من الكلاسيكيات فى موضوعه، بل هو الكتاب العمدة الذى أسس لدراسات أنور عبدالملك وتوفيق أكليمندوس وغيرهم من الباحثين العرب والمصريين، واليعازر بعيرى (الإسرائيلى) الذى ترجم كتابه إلى العربية الصديق بدر الرفاعى0.
غير أن مؤلف دانكوارت روستو تبقى له أسباب أخرى للأهمية إلى جانب السبق والكلاسيكية، فهو ألمانى الأصل، فرت أسرته به وهو طفل إلى الولايات المتحدة هربا من ديكتاتورية هتلر النازية، أى أنه وريث لمعاناة أسرية ومجتمعية وثقافية مباشرة من الشمولية النازية، ومصدرها العسكرى البروسى، مثله مثل هنرى كيسنجر النازح هو أيضا من ألمانيا، وزيبجنيو بريزنيسكى النازح من بولندا، والمعنى أنه كان لديه دافع شخصى وأخلاقى للاهتمام بدراسات التحول إلى الديمقراطية، ومقاومة النظم الشمولية.
لكل تلك الأهمية لدراسات الرجل، ولأن تكرار فشل عمليات التحول الديمقراطى فى وطننا مصر يثبت صحة نظريته، كما سيتضح توا، فإننا نعرض هذه النظرية هنا.
يرى روستو أنه لا يتحتم سوى شرط واحد جوهرى من شروط أربعة لإمكان التحول من الشمولية إلى الديمقراطية، هذا الشرط الحتمى الوحيد هو الوحدة الوطنية، بمعنى توافر شعور غير مختلف عليه بالانتماء إلى جماعة سياسية قومية أو وطنية واحدة، تقيم دولتها، لأنه قبل أن يقرر الناس كيف يحكمون، يجب أن يعرفوا من هم، أما بقية الشروط الأربعة عنده فهى تالية أو ثانوية، وهى النضال أو النقاش لفترة مطولة، ثم القرار أو إجماع النخب، وأخيرا، العادة أو التعود، أى ما كان يسميه الفيلسوف البريطانى جون ستيوارت ميل أحد أباء الديمقراطية الليبرالية بالمران على الديمقراطية.
وفى اجتهادنا أن ما يغيب فى التجربة المصرية من هذه الشروط الثلاثة هو أولا إجماع النخب، وهنا يأتى دور الوعى، أو الإرداة، أى قرار الاختيار من بين البدائل المتاحة، وثانيا شرط «المران»، بما أن كل تجربة ديمقراطية لدينا تضرب ما إن تبدأ.
ولا شك أننا متفقون جميعا ــ ودون استثناء لمواطن واحد ــ على أننا دولة موحدة منذ فجر التاريخ، نعم فقدنا الاستقلال فى أحقاب كثيرة، ولكننا لم نعرف التجزئة الجغرافية، أو الاجتماعية، ولم يعرف المصرى طوال تاريخه هوية له سوى أنه مصرى، قد يضاف اليها أحيانا أنه مصرى مسلم، أو مصرى قبطى، أو مصرى يهودى، أو مصرى رومانى أوعثمانى، ولكن الرباط الجامع الذى هو المصرية يسبق أى تعريف فرعى تال فى كل الأحوال والأحقابة.
إذن فإن مصر يتوافر لديها الشرط الوحيد الجوهرى والحتمى للتحول الديمقراطى، فإذا وضعنا إلى جانب هذه الحقيقة ما خلص إليه المفكر المصرى الكبير الراحل جمال حمدان بعد تحليل مطول من أن القدر الذى حققته مصر من الحداثة قد أزال مبررات الطغيان الفرعونى، وإذا تذكرنا أن الديمقراطية الحديثة لم تكن هى السائدة فى أغلب دول العالم حتى عهود قريبة، وأن هذه الديمقراطية هى عملية تطورية، نقول فى ضوء كل ما سبق أنه يتأكد لنا أن إجماع النخب بوعى وإرادة على الحل الديمقراطى هو الحلقة الأهم المفقودة.
فى مقال قديم نسبيا تساءلنا ألم يكن تاريخ مصر سيختلف كلية لو أن الخديوى توفيق كان مخلصا فى استجابته لمطالب العرابيين من عسكريين ومدنيين بالحكم النيابى، ولم يتواطأ هو والسلطان العثمانى مع بريطانيا ضدهم، حتى تبقى مصر ضيعة «ورثها عن آبائه وأجداده، ويبقى المصريون عبيد احسانات سموه»، وحتى لا تنتقل عدوى الديمقراطية من القاهرة إلى إستانبول، ولو كان الثمن هو احتلال عسكرى جثم سبعين عاما على صدور الخديوى وخلفائه، مثلما جثم على صدور المصريين جميعا، لقد كان القرار أو الأختيار ضد الديمقراطية بوعى كامل، أى أن عدم اجماع النخب على التحول الديمقراطى هو سبب الكارثة.
سنمر بعد ذلك سريعا على أحداث وتطورات ثورة 1919، بما فيها من انشقاقات ومكائد ضد زعامة سعد زغلول باشا للأمة والوفد، لنصل إلى لحظة الائتلاف الكبيربين الوفد والأحرار الدستوريين فى عامى 1926، 1927، ففى تلك اللحظة بدا أن النخب أجمعت أخيرا على قبول قواعد اللعبة الديمقراطية، فاتفق على أن يبقى سعد باشا هو المرجع النهائى للقرارات الكبرى، خاصة فى مفاوضات الجلاء مع الانجليز، على أن يتولى زعيم الأحرار الدستوريين عبدالخالق ثروت باشا التفاوض بصفته رئيس الحكومة الائتلافية، التى يشارك فيها الوفد، وبدا ساعتها أن مصر فى طريقها للخلاص الداخلى والخارجى، ولكن ما هى إلا أن توفى سعد باشا حتى أيقن القصر الملكى والأحرار الدستوريين أن فرصتهم جاءت للخلاص من الوفد، الذى اعتقدوا أنه سينهار أو على الأقل سوف يضعف ضعفا مميتا باختفاء زعيم الأمة الأكبر، فتواطأ الطرفان على هدم الائتلاف بأسباب واهية، وتولى الأحرار الدستوريون السلطة بقرار من الملك، ليرتكبوا جريمة حل البرلمان، وتعطيل معظم مواد الدستور، ويحل الصراع محل إجماع النخب، ثم يعاود القصر وحلفاؤه من النخبة الكرة بعد أشهر معدودات من عودة الوفد للسلطة بانتخابات أعقبت فشل الانقلاب الدستورى الأول، وفى هذه المرة يلغى الدستور كلية، ويصدر دستور بديل يقنن ديكتاتورية القصر، فتنهمك النخبة فى صراع مطول يستمر حتى يرضخ الملك فؤاد وحلفاؤه فى النخبة لمطلب إعادة الدستور الأصلى، وفيما بعد لتشكيل هيئة موحدة من كل الأحزاب للتفاوض مع بريطانيا برئاسة زعيم الوفد والأمة، فتتوحد النخبة مرة أخرى وتصل إلى معاهدة 1936، ولكن بعد إهدار ثمانى سنوات منذ أن انهار الائتلاف الكبير عام 1928.
معاهدة 1936 نفسها قدمت فرصة أخرى لانطلاقة ديمقراطية، فقد تخلصت البلاد من كثير من قيود الاحتلال، وجاء ملك جديد شاب واعد، وقيل إنه عصرى، ومصرى الثقافة، وليس كأبيه الراحل ذو ثقافة أوتوقراطية شرقية تكونت فى القرن التاسع عشر، إلا أن الفريق المناوئ للوفد من النخبة لم يضيع لحظة واحدة لضرب هذا الإجماع، فشيخ الأزهر، ورئيس الديوان (على ماهر باشا) يريدان تنظيم بيعة دينية للملك، والقصر يرعى النزعات الفاشية والمظاهر المسلحة للإخوان المسلمين ومصر الفتاة (ضد الوفد) فيضطر الوفديون لمجاراتهم، وتقال الحكومة، وتعود مصر إلى الدائرة المفرغة، وصولا إلى استيلاء الضباط على السلطة فى يوليو عام 1952.
فى كل الأمثلة التى تقدمت ألم يكن هناك قرار إرادى واع ضد الديمقراطية؟ وهو الأمر الذى تكرر دائما وأبدا مع حكم ضباط يوليو، فقد انقسمت النخبة، ليناصر فريق فيها الضباط ضد عودة البرلمان الوفدى، ويقنن لهم تحصين قرارتهم «الديكتاتورية» بذريعة السيادة، ثم أطاح الضباط بوعى وإرادة (وهم أيضا جزء من هذه النخب المطلوب إجماعها كشرط للتحول الديمقراطى) بذلك الفريق الذى تحالف معهم ضد الوفد، ثم رفضوا مشروعهم لدستور ديمقراطى، وتقرر اختيار الشمولية السلطوية، بالطريقة نفسها أى الاختيار الإرادى الواعى.
وبعد انتهاء مرحلة جمال عبدالناصر انقلب الرئيس السادات بوعى وإرادة على ما بدأه هو نفسه من تحول ديمقراطى، ليس فى اعتقالات سبتمبر 1981 فحسب، ولكن منذ أن اعتمد تصنيع الانتخابات لكى يأتى ببرلمان مطواع، وحاصر الأحزاب، ليظل هذا هو نهج حسنى مبارك طوال ثلاثين عاما باختيار ووعى وإرادة، وبالطبع كان صاحب أو أصحاب القرار المضاد للديمقراطية يجدون قسم من النخبة جاهز «للخدمة».
وعندما لاحت فرصة جديدة وثمينة لبناء اجماع جديد بين النخب على التحول الديمقراطى، بعد ثورة يناير 2011، ثم فى يوم 30 يونيو 2013، ثبت فيما بعد أن جميع الأطراف لم تكن مخلصة لهذا التحول، إلا الأطراف الأضعف فى موازين القوى، وعدنا ندور فى الحلقة المفرغة التى يسميها دانكوارت روستو غياب اتفاق النخبة على قواعد اللعبة الديمقراطية.
إنه الاتفاق الذى لا ينقص مصر سواه للتحول الديمقراطى، بما أنها دولة عريقة وعميقة الوحدة الوطنية.

 

عبد العظيم حماد رئيس تحرير جريدة الشروق السابق. كاتب صحفي مصري بارز ، وشغل عدة مناصب صحفية مرموقة على مدار تاريخه المهني.ولد عام 1950 ، وحصل على بكالوريوس العلوم السياسية ، وعمل كمحرر ومعلق سياسي منذ عام 1973 ، سواء في الإذاعة والتليفزيون أو في مجلة أكتوبر أو في جريدة الأهرام ، وكان مديرا لتحرير الأهرام الدولي في أوروبا ، وكبيرا لمراسلي الأهرام في منطقة وسط أوروبا ، وله مؤلفات وأبحاث وكتابان مترجمان ودراسات دولية متنوعة.