إدواردو جاليانو.. حكواتى التاريخ المضاد الذى لا يكتبه أحد - العالم يفكر - بوابة الشروق
الأربعاء 24 أبريل 2024 5:50 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

إدواردو جاليانو.. حكواتى التاريخ المضاد الذى لا يكتبه أحد

نشر فى : الأحد 27 مايو 2018 - 9:50 م | آخر تحديث : الأحد 27 مايو 2018 - 9:50 م

نشرت مؤسسة الفكر العربى مقالا للكاتب «إسلام حجازى» عن الكاتب والروائى الأورجوايانى « إدواردو جاليانو». تميز جاليانو بسرد القصص بطريقة تشويقية تشبه الحكواتى فى تراثنا الفلكلورى الشعبى، فضلا عن اهتمامه بالموضوعات والقضايا الشائكة فى تاريخ القارة المنهوبة. ومن الجدير بالذكر أنه نجح فى تدشين مدرسة جديدة فى أدب أمريكا اللاتينية، مزجت بين الماضى والحاضر، ولم تعترف بالحدود الفاصلة بين أشكال التعبير وأساليبه المُختلفة.

إسلام حجازى
بداية ذكر الكاتب أنه مع بداية ربيع العام 2009، وأثناء مُشاركتى مع أحد أساتذتى الأفاضل فى جامعة القاهرة فى تدريس مقرَر «قاعة بحث دراسات أمريكا اللاتينية»، تقدَم أحد الطلاب الأذكياء باقتراحٍ لتصميم وإجراء مشروع بحثى غير تقليدى، حاول فيه استكشاف خبرة صعود الديكتاتورية العسكرية وسقوطها فى أوروجواى (1973 ــ 1984)، وذلك من خلال الاعتماد بشكلٍ رئيسى على مدخل التاريخ المضاد، وانطلاقا من التحقيقات والمرويات الموجودة فى بعض أعمال الباحث والصحفى والروائى «إدواردو جاليانو».
لم أكُن أعرف شيئا حينذاك عن هذا الرجل، لكن سرعان ما تعلقت به وبأسلوبه المتفرد فى اصطياد القصص وسردها، بطريقة أقرب إلى شخصية الحكواتى المتواجدة فى تراثنا الفلكلورى الشعبى، التى أحبَها الصغار والكبار على حد سواء، وكان يحتشد الناس حولها قديما فى المنازل والمقاهى والمحال والطرقات.
فالكاتِب الأوروجوايانى، الذى يُعَد من أبرز وجوه عَوالِم الصحافة والأدب السياسى فى أمريكا اللاتينية، لم يكتفِ بتناوله العميق وسرده السلس للعديد من الموضوعات والقضايا الشائكة فى تاريخ القارة المنهوبة من الخارج أو من الداخل، وإنما تميز بتفاعله الدائم مع مشاعر جمهوره، وتجسيده الحقيقى لصوتهم الإنسانى المقهور، كما كان الحال فى كتابه الأشهر «الشرايين المفتوحة لأمريكا اللاتينية: خمسة قرون من نَهْب قارة»، الذى بدأت معه قصة وَلَعى بشخصية مؤلِفه، واختاره كذلك الرئيس الفنزويلى الراحل، هوجو تشافيز، فى العام 2009، ليكون هديته إلى رئيس الولايات المتحدة الأميركية السابق، باراك أوباما، خلال اجتماعٍ للأخير مع رؤساء دول أمريكا الجنوبية، ليتحدث العالَم طويلا بعد هذه الواقعة عن هذا الكِتاب ومؤلفه.

***

وُلد «جاليانو» فى العاصمة الأوروجوايانية، مونتفيديو، وبالتحديد فى الثالث من سبتمبر من العام 1940، لأسرة كاثوليكية مَيسورة الحال من أصول أوروبية متعددة. وقد بدأ رحلته مع الصحافة وهو فى سن الرابعة عشرة، بعد أن نجح فى بيع أول رسْم كاريكاتورى له لصحيفة « الشمس» الأسبوعية التابعة للحزب الاشتراكى فى مَوطنه. ومع بداية الستينيات، بدأ عمله الجديد فى مجلة يسارية شهيرة تدعى «المسيرة»، أبدع من خلالها فى التنديد بالمَظالم التى يتعرض لها العمال والفلاحون فى بلاده وقتها. وفى سن الثامنة والعشرين بات مديرا لتحرير صحيفة «إيبوكا» المهمة فى الأوروجواى. كما تعرَض «جاليانو» للسجن، وعاش جزءا كبيرا من حياته فى المَنفى، بين الأرجنتين وإسبانيا، لأسبابٍ سياسية مختلفة.

«لماذا يكتب المرء إن لم يكُن من أجل أن يجمع القطع مع بعضها بعضا؟»، يتساءل «جاليانو» عن الأسباب والدوافع الكامنة التى قد تقود الإنسان إلى مُمارَسة شغف الكتابة «غير المُجدى» بالنسبة إليه، وبحسب تعبير الفيلسوف الفرنسى الشهير جان بول سارتر، من أجل إعادة ترتيب أفكاره ومعلوماته وخبراته المُتراكمة والمتناقضة، بل والعصية على الضبط فى كثير من الأحيان، ويجيب «غاليانو» على نفسه فى موضع آخر من رائعته «صياد القصص»، التى نقلها لنا إلى العربية المُترجِم العربى الكبير صالح علمانى عن دار ورق: « أحدنا يكتب من دون أن يدرى جيدا لماذا يفعل، ولأى هدف، ولكن يفترض أن للأمر علاقة بالقضايا التى يؤمن بها المرء أكثر من سواها.. بالشئون التى تؤرقه. نكتب استنادا إلى بعض الأمور المؤكدة، وهى ليست مؤكدة بدوامٍ كامل أيضا. فأنا على سبيل المثال، مُتفائل بحسب ساعات اليوم. فحتى انتصاف النهار، أكون متفائلا بصورة كافية. بعد ذلك، منذ الساعة الثانية عشرة حتى الرابعة، تصل روحى إلى القدمَين. فأعيد وضعها فى مكانها من جديد عند الغروب. وفى الليل تسقط وتنهض عدة مرات، حتى صباح اليوم التالى، وهكذا».

وإلى جانب مهنة الصحافة، التى اعتزَ بها «جاليانو» كثيرا وسعى من خلالها إلى التماس طريقه المميَز فى إعادة استكشاف الواقع، نجحت إسهاماته الأدبية، بجوار أعمال غيره من أبناء جيله، فى تدشين مدرسة سحرية جديدة انتشرت فى الكثير من أدب أميركا اللاتينية، مزجت بين الماضى والحاضر، ولم تعترف بالحدود الفاصلة بين أشكال التعبير وأساليبه المُختلفة، وهى المدرسة الأدبية التى جمع «جاليانو» فيها بين فنون الشعر والرواية والقِصص والسرد، وحاول من خلالها مُمارسة هَوسه بالتذكر فى إطار علاقات المجتمعات المهمَشة القائمة مع السلطة السياسية. وفى هذا السياق، يبدو لنا أنه قد تأثر إلى حدٍ كبير بالمفاهيم التى طوَرها الفيلسوف الفرنسى الشهير، ميشيل فوكو، فى السبعينيات حول أهمية الذاكرة المضادة «CounterــMemory»، ودَورها الفعال والمُعترَف به فى تأويل التاريخ، عوضا عن مجرد الاكتفاء بدَور المُعاينة السلبية.

***

ويضيف الكاتب بأنه، طوال فترة حياته، ظل «جاليانو» يستخدم مَعارفه الغنية ومهاراته البحثية الإثنوجرافية المتميزة لإنتاج نصوص أدبية كثيرة وبديعة، حاولت فى أغلبها تقديم مُقارَبة تأويلية بديلة للتاريخ من الضفة المضادة، بأصواتٍ وحكايات وتجارب من الفقراء والمُستبعَدين والمُهمَشين والمُستغَلين، فكتب جزءا ليس بالقليل من تاريخ الشعوب ونضالهم المضاد، بهم ولهم. وقد تُرجمت معظم أعماله لأكثر من ثمانية وعشرين لغة مُختلفة. وكان من أهم ما نُقل إلينا منها بالعربية: «الشرايين المفتوحة لأمريكا اللاتينية»، و«كلمات متجولة»، و«كِتاب المُعانقات»، و«أفواه الزمن»، و«مرايا: ما يشبه تاريخا للعالَم»، و«كرة القدم بين الشمس والظل»، و«أطفال الزمن: تقديم للتاريخ البشرى»، و«صياد القصص». هذا فضلا عن ثلاثيته الشهيرة «ذاكرة النار»، التى اعتبرها الكثيرون من أهم أعماله الأدبية الناجحة فى استعادة تاريخ قارة أمريكا اللاتينية، والتى نسجها من خلال نثرٍ جميل، يقترب أحيانا من تخوم الشعر، مازِجا ببراعةٍ فائقة بين المتخيَل والتاريخى.

فى تقديمها النسخة الإنكليزية من كِتاب «الشرايين المفتوحة لأمريكا اللاتينية»، الصادرة لأول مرة فى العام 1973، تشير إيزابيل الليندى، الروائية التشيلية الشهيرة التى تجاوزت مبيعات مؤلفاتها أكثر من 65 مليون نسخة بخمس وثلاثين لغة مُختلفة، إلى أن أغلب أعمال «جاليانو» وكتاباته تتسم «بأنها مزيج من التدقيق فى التفاصيل، والإدانة السياسية، والنزعة الشعرية، وحكى القصص الجديد». وبحسب رؤيتها التى تنتمى إلى الواقعية السحرية أيضا وكلماتها العذبة، يبدو أن «جاليانو» قد نجح بالفعل فى أن «يجوب أمريكا اللاتينية طولا وعرضا، لينصت إلى أصوات الفقراء والمضطَهدين، مثلما ينصت إلى أصوات القادة والمثقفين. عاش بين الهنود، والفلاحين، ومُقاتلى حرب العصابات، والجنود، والفنانين، والخارجين على القانون؛ كما تحدث إلى الرؤساء، والطغاة، والشهداء، والكَهنة، والأبطال، وقطاع الطرق، والأمهات المُحبطات، والعاهرات العليلات. تعرض للدغات الأفاعى، وعانى من شتى أصناف الحمى الاستوائية، مشى فى وسط الأدغال، ونجا من سكتةٍ قلبية خطيرة؛ اضطُهد من أنظمةٍ قامعةٍ تماما مثلما اضطُهد من إرهابيين مُتعصبين. ناصَب العداء للديكتاتوريات العسكرية وكل أشكال الوحشية والاستغلال، مُدافعا من دون تفكير فى المَخاطر عن الحقوق الإنسانية» فى جميع أنحاء العالَم.

***

وكعاشقٍ لكرة القدم بصفة عامة، وكباحثٍ دائم عن العوامل والديناميات السياسية الكامِنة فى مسيرة هذه اللعبة الرياضية الشهيرة بحُكم التخصص العِلمى، أحببتُ كثيرا عمل «جاليانو» الرائع والفريد من نوعه، على الأقل من وجه نظرى، الذى كتبه تحت عنوان «كرة القدم بين الشمس والظل»، وبرع من خلاله فى تناول جزء كبير من شبكة العلاقات والروابط المُتداخلة بين عَوالِم السياسة والمال والرياضة وتحليله عبر فترة زمنية طويلة، بدأت مع تحليله لأهم الأحداث والمُباريات الرياضية منذ العام 1938، وانتهت مع قراءته الشيقة لمونديال العام 1994. وقد لا أبالغ إذا قلت إن قراءة هذا الكِتاب، الذى جاءت نسخته العربية المُترجَمة فى 308 صفحات، يجب أن تكون فرضَ عَين على كل باحث عربى مهتم بدراسة تاريخ الساحرة المستديرة وواقعها من منظور سياسى، لأنه بحق يقدم مُقارَبة تشريحية عميقة وبسيطة فى الوقت نفسه لأهم العناصر السياسية والاقتصادية والسيكولوجية التى تتأثر بها من جانب، وتؤثر هى فيها من جانب آخر.
يختتم الكاتب حديثه بالإشارة إلى أنه بعد مرور أكثر من ثلاث سنوات على رحيل جسد «جاليانو» عن عالَمنا، نتيجة صراعه المُمتد والمرير مع مرض سرطان الرئة، يجب أن نتوجَه بخالص عبارات الشكر والامتنان للمُترجِمين الذين نقلوا لنا بعض أفكاره وأعماله إلى اللغة العربية، ونُطالبهم فى الوقت نفسه بالسعى لترجمة المزيد من مقالاته ونصوصه وكتاباته الأخرى التى لم تنقل لنا بعد، لأسبابٍ شخصية وعامة تنوعت، وجاء على رأسها القيود السياقية المفروضة من الحكام والناشرين فى منطقتنا العربية. فمُعظم شعوبنا الآن فى حاجة ماسة إلى إعادة تعريف «السياسة» التى تم التلاعب بها « كثيرا إلى الحد الذى صارت تعنى فيه كل شىء ولا تعنى شيئا»، كما يؤكِد «غاليانو» بنفسه فى أحد نصوصه. والحقيقة أن النهل من معرفة هذا الرجل وتجاربه قد يساعدنا فى تحقيق هذا الهدف، ويأخذ بأيدينا نحو التطبيق الصحيح للإمكانات الحرجة للمُقاوَمة، فى إطار نهجٍ سليم لمُمارسات تذكر ونسيان التاريخ، ليس على مستوى ما يُمكن أن نتذكره فقط وما يُمكن أن ننساه، وإنما على مستوى أعمق، يهتم بكيفية الحدوث، وبالفاعِلين المسئولين، وبالآثار المترتبة عن ذلك.

النص الأصلى

التعليقات