ما لم نتعلمه من مانديلا - عبد الله السناوي - بوابة الشروق
الأربعاء 24 أبريل 2024 1:28 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

ما لم نتعلمه من مانديلا

نشر فى : الأحد 27 مايو 2018 - 9:50 م | آخر تحديث : الأحد 27 مايو 2018 - 9:50 م

قبل إطلاق سراحه من سجنه الطويل طلبت مجلة الـ«تايم» الأمريكية من أحد فنانيها أن يرسم صورة تخيلية تتصدر غلافها لرجل اختلفت ملامحه بأثر السنين، عاش فى شبه عزلة لسبعة وعشرين عاما متصلة، لم تنشر له صورة واحدة وكان من الصعب على من لم يره طوال هذه السنوات أن يتوقع الصورة التى أصبح عليها.
لم يكن الآلاف الذين انتظروه على أبواب سجن «فيكتور فيرستير» بوسعهم أن يتعرفوا عليه بسهولة.. ما إن أطل عليهم وقيل لهم: «إنه نيلسون مانديلا» حتى تعالت الصرخات: «أحرار.. أحرار».
فى خطوته الأولى إلى الحرية يوم (١١) فبراير (١٩٩٠) خطت الإنسانية خطوة هائلة لإنهاء نظام الفصل العنصرى فى جنوب إفريقيا.
بدهاء التاريخ كان يوم خروجه إلى الحرية هو نفس يوم خروج «حسنى مبارك» من السلطة فى مصر بعد (٢١) عاما!
وبمفارقة المصائر اجتاز «مانديلا» ورفاقه اختبار التماسك حول أولوية القضية فيما أخفق القادة الفلسطينيون فى نفس الاختبار بتوقيت مقارب.
فى أعقاب الحرب الباردة تولدت بالبيئة الدولية ضغوط وتساؤلات حول قضيتى فلسطين وجنوب إفريقيا تدعو لوضع حد لهما.
رفاق «مانديلا» تراجعوا خطوتين أو ثلاثا إلى الخلف وتركوه يتقدم وحده إلى مقدمة المسرح السياسى بدوافع قضية منحوها أعمارهم سجنا ونفيا لا تنازع على سلطة حان وقت الصعود إليها.
ما حدث فلسطينيا كان العكس تماما، حيث جرت هرولة سرية إلى أوسلو صحبتها تنازلات فادحة يدفع ثمنها حتى الآن لقطع الطريق على أى احتمال لتغيير المواقع القيادية، فيما لو نجح الوفد التفاوضى فى مدريد من تحقيق اختراق ما.
فى خلفيات الرواية الجنوب إفريقية علاقة فريدة جمعت ثلاثة رجال: «نيلسون مانديلا» و«أوليفر تامبو» و«وولتر سيسولو» تعبيرا عن أولوية القضية.
«تامبو» تولى لفترة طويلة رئاسة حزب المؤتمر الوطنى الإفريقى.. وعندما عاد إلى بلاده لأول مرة بعد ثلاثين سنة فى المنفى، ليحضر أول مؤتمر علنى للحزب فى ديسمبر (١٩٩٠) قال «مانديلا» من على منصة المؤتمر أمام العالم كله: «ها هو أوليفر يقودنا نحو مستقبل مشرق مفعم بالأمل، إنه الرجل الذى أنقذ الحزب طوال السنوات السبع والعشرين التى قضيتها فى السجن، وهو الذى انتقل به إلى منظمة عالمية لها حضورها ونفوذها».. «إنه بحق الجندى والدبلوماسى ورجل الدولة».
فى سنوات الشباب الأولى تشاركا بمكتب محاماة فى جوهانسبرج حمل اسم «تامبو مانديلا».. ومن موقعه فى رئاسة المؤتمر الوطنى الإفريقى تبنى حملة دولية لشرح قضية مواطنيه الأفارقة ضد سياسة الفصل العنصرى والتنديد بها والدعوة إلى الانعتاق منها، وأن يكون شعارها إطلاق سراح «نيلسون مانديلا».
لم يكن السجين الوحيد الذى تقادمت عليه السنين فى السجن ولا وحده من صمد فى مواجهة عنت وعسف السلطات البيضاء ضد كل ما هو إفريقى أسود.
امتدت الاعتراضات والحساسيات إلى السجون وتردد على نطاق واسع أن الحملة ومنطقها أقرب إلى «شخصنة القضية» على حساب طبيعتها العامة لشعب يرزح تحت الفصل العنصرى.
«تامبو» دافع باستماتة عن فكرته ونجح فى تذليل الاعتراضات عليها، فالعالم يتفهم القضايا الكبرى عندما تطرح عليه، لكنها قد تلهم خياله عندما تجسد أمامه فى طلب الحرية لإنسان يرمز إلى أمة مقهورة.
عندما نجح رهانه، بأكثر مما توقع، لم يتردد أن يفسح المجال أمام «مانديلا» لقيادة مرحلة التحول، فقد أصبح رمزا للقضية معتقدا بعمق أن قضيته فوق شخصه وانتصارها فوق طموحاته وأن لكل مرحلة رجلها، و«مانديلا» هو رجل اللحظة التاريخية.
فى لقاء فريد بتوقيته وأجوائه وتفاصيله جمع الرجلين فى العاصمة السويدية «ستوكهولم» تجلت معادن الرجال الكبار.
بادره «أوليفر» بعبارة قاطعة: «نيلسون.. عليك الآن أن تتسلم رئاسة الحزب فقد قمت بواجبى فى رعاية المقعد حتى تصل أنت إليه».
رد عليه: «أنت الذى توليت قيادة الحزب من الخارج بأفضل مما كنت قادرا عليه وانتقال الرئاسة بهذا الأسلوب ليس عادلا ولا ديمقراطيا».. «لقد انتخبك الحزب رئيسا وليس من حقك أن تسند الرئاسة إلى غيرك».
لم يتراجع «أوليفر» عن موقفه وكان قراره حاسما ونهائيا.. فهو رجل «ذكاؤه عميق وقدراته استثنائية فى الحوار والنقاش وتفنيد أفكار خصومه بأسلوب منطقى ومقنع»، على ما يصفه «مانديلا» فى مذكراته التى يسجل فيها أن أفضل ما تعلمه منه «نظرته الموضوعية التى خففت من اندفاعاتى العاطفية المتسرعة».
تبنى الرهان نفسه رجل قوى آخر هو «وولتر سيسولو»، الذى عانى عذابات السجون الطويلة بذات التهم، وكانت شخصيته ملهمة لكثيرين أولهم «مانديلا» نفسه الذى كتب فى مذكراته: «لقد خضت مع وولتر النضال حلوه ومره.. وهو رجل عنده حكمة وعقله راجح، ولا يوجد فى الدنيا كلها من يعرفنى أكثر منه ولا أطمئن لرأى وأقدره أكثر مما أطمئن لرأى وولتر وأقدره».
كانت تلك الآثرة مسألة اعتقاد أن مصلحة القضية فوق أى شىء آخر.
كان «مانديلا» مهيأً أكثر من رفيقيه لقيادة التحول، فهو صاحب فكرة «الحوار مع العدو».
لم يبد «وولتر» ارتياحا للفكرة عندما حاوره خلف الأسوار.
لم يكن ضد المفاوضات من حيث المبدأ لكنه كان يفضل أن تبادر الحكومة البيضاء بها لا أن تأتى «من صفوفنا».
لم يبد فى الوقت نفسه «أوليفر» ارتياحا للفكرة وأرسل إلى «مانديلا» عبر محامين يسأل: «ما موضوع المحادثات السرية بالضبط؟».
أقنع «مانديلا» رفيقيه بالمضى فى المحادثات لاكتشاف فرص المستقبل وقد كان الرهان فى محله.
لم تكن هناك مثل هذه الفرصة فى مدريد غير أن التنازلات التى بذلت فى أوسلو والعشوائية التى بدت عليها القيادة الفلسطينية، سحبت على المفتوح نزيفا من رصيد أعدل القضايا الإنسانية حتى وصلنا إلى «صفقة القرن» والاستهتار الكامل بكل حق فلسطينى.
إذا لم نتعلم درس «مانديلا» ورفاقه من أن القضية فوق الرجال والفصائل فى مواجهة ما هو مقبل من مخاطر وصدامات فإن الخسائر لن يمكن تحملها.