عنوان ليس فيه «الأرض» و لا«مصرية» و لا «العم أبوسويلم» - داليا سعودي - بوابة الشروق
الخميس 18 أبريل 2024 3:53 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

عنوان ليس فيه «الأرض» و لا«مصرية» و لا «العم أبوسويلم»

نشر فى : الإثنين 26 يونيو 2017 - 9:20 م | آخر تحديث : الإثنين 26 يونيو 2017 - 9:20 م
قبل عامين، طَلب إليَّ المكتبُ الثقافيُّ المصريُّ بالرياض المساهمةَ بمقدمةٍ تحليلية أُلقيها قبل عرض فيلم «الأرض» فى إطار مشاركةٍ مصرية فى الاحتفال السنوى باليوم العالمى للفرانكفونية. وقد كانت أمسيةً ثقافية ناضجة استمتع خلالها المشاهدون ــ مصريون وعرب وأجانب ــ بهذه الملحمة السينمائية المصرية الخالدة. أتذكر اليوم تلك الليلة الباعثة على الزهو الوطنى فى سياق المشهد الحالى فتباغتنى الدهشة من مبلغ التغير السريع الذى شهدناه ما بين أيامنا هذه والأمس القريب.
***
تحدثتُ قبل إظلام القاعة ورَفْع الستار وظهور كلمة «الأرض» مضرجةً باللون الأحمر على خلفية النخيل الباسق الهارب، وهدير صوت المجموعة منشدا لحن على اسماعيل الشجى. تحدثتُ فى معنى الملحمة وتعريفها وأثرها فى التكوين النفسى للجماعة الوطنية. قلتُ إن الملحمةَ قصيدةٌ شعرية طويلة، تزخرُ بالأحداث الجسام، وتقصُّ حكايةً بطوليةً خارقة عن أحد النماذجٍ الإنسانية التى يُحتذى بها لنبلها وشجاعتها، ويموج من حولها شعبٌ تتنازعه خصالُ الملائكةِ وأهواءُ الشياطين. فما إن استقرت الملحمةُ فى الوجدان الجمعى لأمة حتى بات عسيرا فصلها عن ملامحها من دون عنفٍ أو تشويه. مضيتُ أتحدث عن ملحمة قرية مصرية فى ثلاثينيات القرن الماضى، بطلُها فلاحٌ مصريٌ جليل، هو العم محمد أبوسويلم، الذى ناضل للحفاظِ على أرضه حتى الرمقِ الأخير، وثار ضد تغولِ الإقطاع وبطش النظام وانتزاع الأرض.
تحدثتُ عن ناظمِ هذه القصيدة السينمائية المصرية المدهشة، عن الساحر الماكر يوسف شاهين، الذى ما إن يُذكر الفن السابع المصرى، حتى يقفز من وراء أول أبواب الذاكرة مشاغبا مشاكسا مبارزا بلغته السينمائية المتحدية بلادة الواقع وسلاطة أكاذيب السرديات الرسمية. ذكرتُ فيما ذكرتُ ما لأفلامٍ مثل «عودة الابن الضال»، و «العصفور»، و «الناصر صلاح الدين» من مكانة فى نسيج الضمير المصرى، وإن كانت لم تصل بنفس القدر إلى التغلغل فى مسام الشخصية المصرية بمثل ما فعل فيلم «الأرض» وبطله الهمام العم أبوسويلم.
فى تلك الأمسية، توقفتُ طويلا أمام الترجمة البصرية «الشاهينية» لرواية الأديب الكبير عبدالرحمن الشرقاوى. فمن أهم أسباب قوة هذا الفيلم العظيم وتفرده هو لا ريب الأصلُ الروائى المأخوذُ عنه. لكن شاهين أضاف إلى ذلك الأصل تفسيرا سياسيا لم يكن موجودا فى رواية الشرقاوى. فهو لم يكتفِ بالطرح المنتمى إلى الواقعية الاشتراكية الذى يجعلُ من الروايةِ أشبهَ بالأعمالِ الأدبية السوڤييتية الأولى، بل تخطاه ليقدم عملا نابعا من سياقه الزمنى، يوصِّف آلام اللحظة التاريخية التى خرج فيها إلى النور.
فالرواية الصادرة عام 1954، بعد عامين من قيام ثورة يوليو 52، تنتهى على نبرةٍ متفائلةٍ فى أن يخرجَ العمُ أبوسويلم من محبسه وأن يتم تعويضُه هو ورفاقه عن أرضهم المنتهبة، فى استشرافٍ واضح لمكتسبات الثورة وقوانين الإصلاح الزراعى. أما الفيلم، فنهايته مغايرة تماما. إذ تم إنتاجُه عام 1969، فى أعقاب هزيمة يونيو 67، فى وقت كانت مصرُ كلُّها تتشح بالسواد حدادا على شهدائها وحزنا على أرضها السليبة. وبعد أن توقف شاهين عن العمل قرابةَ ثلاثِ سنوات، اختار رواية «الأرض»، وتوجه بها إلى المؤسسةِ المصريةِ العامةِ للسينما التى قدمت له دعما غير محدود. وبالفعل تكلف الفيلمُ ضعف ما كانت تتكلفه الأفلام عادةً فى ذلك الوقت، لكى يخرج بصورة لم تمح بهاءَها العقود. لذلك، ومن واقع الأزمة السياسية التى كانت مصر تشهدها بعد النكسة وأثناء حرب الاستنزاف، قرر يوسف شاهين أن يختار لفيلمه نهايةً مغايرةً لما جاء فى الرواية، ليُخرج لنا المشهدَ الختاميَ الأبقى فى الذاكرة المصرية، إعلاءً لقيمة الفداء، وابتداعا لأيقونة مصرية خالصة تُعَـرِّف عقيدة الوطنية فى أذهان أجيال متلاحقة على أنها التشبث بتراب الوطن والدفاع عن الأرض المصرية حتى الرمق الأخير.
***
راقبتُ الوجوه من حولى أثناء العرض فى ضوء القاعة الخافت. استغراقٌ تام! بضع ابتسامات، فمعايشة وتفكر، فاندماج وتدبر. أبصارٌ شاخصة سكبت مع مشهد نهاية الأليم ما ظل معلقا بها من دموع. وطوال العرض، تدافعت لحظات المتعة الوجدانية وتلاحقت: موسيقى على اسماعيل وعزف أوركسترا القاهرة السيمفونى. أداء محمود المليجى العبقرى فى هيبته الطاغية ودموعه الشامخة. صلابة الفتى عبدالهادى وأناقة الفلاحة وصيفة. «الوجه الجديد» على الشريف منبهرا أمام الفلافل فى محطة البندر. النصف ريال الذى سينفق منه الولد الصغير طوال إجازته الصيفية. محمد أفندى المتثاقف التافه راكبا الحمار فى طريقه لمقابلة رئيس الوزراء «شخصيا». تعاون الفلاحين لإنقاذ البقرة الواقعة فى الترعة بعد أن كادوا فى عراكهم أن يقتلوا بعضهم البعض. صلافة الإقطاعى محمود بيه وكلبه الكانيش وكلابه الآدمية. وضاعة العمدة وانتهازية الشيخ يوسف وخيانة الشيخ حسونة. كادرات يوسف شاهين المنبئة منذ البداية بالنهاية المحتومة. وبالطبع لا أنسى حوار حسن فؤاد الذى يلمح إلى سبب النكسة منذ مشهد الاستهلال، حتى قبل ظهور عنوان الفيلم، بجملة باترة كالسيف: «جحدوا الأرض فجحدتهم..!». و لا أنسى «الماستر سين» الذى يصنعه مونولوج محمد أبوسويلم مسترجعا أمجادَ جيله الثورية وناعيا أحلامهم المجهضة: «كنا رجالة.. ووقفنا وقفة رجالة»..! ولا أنسى انكساره وسط أرضه متسائلا بعد تعرضه للسجن والتعذيب: «يفضل إيه للبنى آدم لما تتهان كرامته؟». وكذلك لا أنسى، وسط كل تلك الأحزان، بهجة حقول القطن المترامية وأغنية «نورت يا قطن النيل.. يا حلاوة عليك يا جميل.. اجمعوا يابنات النيل»... ولا أنسى فى المبتدأ والمنتهى لونَ اليدين اللتين تفتتحان المشهد الأول وتختتمان المشهد الأخير. يدان بلون الأرض وكأنهما امتدادٌ مؤقتٌ لها، يخرجان منها ويعودان بعد عمر من بذل العطاءِ إليها.
***
وبعد،
لا أحسب أن أى احتفال مصرى رسمى سيتضمن حاليا عرضَ فيلم «الأرض»، كما حدث قبل أقل من عامين فى أمسية الرياض. فقد بلغ حد انزعاج الحكومة المصرية مؤخرا من هذا العمل الفنى، ومن أيقونة العم «أبو سويلم» ما جعلها تحجب الصحف التى صدَّرت بصورته صفحاتها الأولى مناديةً بحق الشعب فى معرفة تفاصيل ما جرى فى جلسات البرلمان، وما تم قبلها، بشأن مصير جزيرتى تيران وصنافير. بل إن من عبّروا من أبناءِ الشعب عن تمسكهم بمصرية الأرض تعرضوا للهجوم والاعتقال! وكأن المفترض ألا يكون ثمة جدلية تتواتر فيها كلمات «الأرض» أو «مصرية» أو يعود فيها وجه شيخ ملحمة الأرض إلى الظهور.
صار وجه عم محمد أبوسويلم مخيفا للبعض، محرِّضا على التمرد، مستوجبا الحَجب والمصادرة، فيما ازداد تعلّقُ البعض الآخر بصورته حتى صار أيقونة المرحلة، وبطلها الغائب، رُغمَ مآله التراجيدى، مسحولا من قدميه، راويا زهرات القطن الأبيض فى أرضه حتى آخر قطرة من دمه. وبين البعض والبعض الآخر تتسع الهوة. إذ إن قرار مجلس النواب الذى تعززه النوايا المطلة من قرار المحكمة الدستورية العليا إنما يزيد الاستقطابات ويعمق الضغائن بين «فصائل» الشعب المصرى، بل هو يصنع أحقادا جديدة وينكأ جراحا ستظل تلاحقنا لأننا لم نسعَ أبدا إلى مداواتها بأمانة. لكن الأسوأ هو أن القرار ينخر فى عظام الشخصية الوطنية المصرية ويعبث بصفاتها النفسية الوراثية، ويهدد بتشويه عقيدتها الأخلاقية الراسخة. ففى أعماق تلك الشخصية المصرية الممتدة منذ آلاف السنين، ثمة فلاحٌ عنيد غيور يغار على الأرض غيرته على العرض. فلاحٌ يعود صوته هادرا عبر أصوات مصرية ما زالت تُنشد باستماتة تحت البأس نشيدَنا الوطنى القديم الذى قدمه لنا يوسف شاهين، وغنته المجموعة من كلمات الشاعرة نبيلة قنديل وألحان الموسيقار على اسماعيل:
«الأرض لو عطشانة نرويها بدمانا
عهد علينا أمانة هتصبح بالخير مليانة
يا أرض الجدود يا سبب الوجود
هنوفى العهود بروحنا نجود
وعمرك ما تباتى عطشانة»...

 

داليا سعودي كاتبة وأكاديمية مصرية حاصلة على جائزة الصحافة العربية
التعليقات