استشراق لويس: ثمانون حولا من التغطرس والتصَهْيُن - صحافة عربية - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 9:45 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

استشراق لويس: ثمانون حولا من التغطرس والتصَهْيُن

نشر فى : الجمعة 25 مايو 2018 - 9:00 م | آخر تحديث : الجمعة 25 مايو 2018 - 9:00 م

لجأ بعض العرب المدافعين عن برنارد لويس (1916 ــ 2018) إلى تكتيك كسيح، فى المنهج كما فى الحجة، مفاده أن «بطريرك الاستشراق»، كما اعتدتُ وأفضل تسميته، لم يكن معاديا للإسلام؛ بدليل أنه من «أعظم المتبحرين فى تراثنا الإسلامى الكبير»، وأنه كان «يعرفه أكثر مما نعرفه نحن»! وبصرف النظر عمن تمثل هذه الـ«نحن»، التعميمية والغائمة والركيكة، فإن التبحر والمعرفة فى ميدان ما، ليسا ضمانة لغياب العداء؛ بل يمكن أن يشكلا فى ذاتهما أفضل أدوات صياغة العداء، وربما أكثرها مضاء فى ترويج أطروحات المعادى. ثمة فارق، وبون شاسع، بين المعرفة وتسخيرها، وبين الخطاب والمخاطَب، ومادة التاريخ الفعلى الملموس فى غمرة هذا التكوين الجدلى كله.
ذلك، أغلب الظن، ما يتعامى عنه العربى المدافع عن لويس، أو يتقصد عدم الوقوف عنده، رغم أن إجراء كهذا ينبثق من أولى درجات المنطق، والمنهج الأولى؛ ورغم أن المدافع إياه قد يزعم التتلمذ على أفكار ميشيل فوكو دون سواه، حول تاريخية الخطاب تحديدا! وأن يبدأ مؤرخ شاب مثل لويس حياته الأكاديمية فى رفوف الأرشيف الغنى للإمبراطورية العثمانية، منذ العام 1950، وكان أول غربى يحظى بهذا الامتياز؛ أمر مختلف عن الأطوار اللاحقة التى جعلت المؤرخ ذاته يقدم لأمثال جورج بوش الابن ونائبه ديك شينى ووزير دفاعه دونالد رمسفيلد نصيحة صريحة بغزو العراق، لأن العراقيين سيستقبلون الغزاة بالأهازيج والأزهار، ولأن هذا هو الدرب إلى الديمقراطية.
***
أمر مختلف، أيضا، أن يتبحر لويس فى التاريخ الإسلامى، من جهة أولى؛ وأن يوظف هذا التبحر فى خدمة مشروع استعمارى استيطانى عنصرى مثل الكيان الصهيونى فى فلسطين، من جهة ثانية. الرجل ولد فى بريطانيا، ثم عاش فى الولايات المتحدة واكتسب جنسيتها، وفيها توفى أخيرا؛ لكنه أوصى أن يُدفن فى تل أبيب، وليس فى أى مكان آخر. كما قام ذات يوم، سنة 1971 (من موقع الأكاديمى المحب للسلام، كما قد يقول المدافع العربى الركيك!) بحمل رسالة سرية من الرئيس المصرى أنور السادات إلى رئيسة وزراء دولة الاحتلال جولدا مائير. وهو الذى سوف يساجل بأن بيان أسامة بن لادن، الداعى إلى إعلان الجهاد ضد القوات الأمريكية المتواجدة فى الجزيرة العربية، يثبت أن دوافع «الإرهاب الإسلامى» إنما ترتد إلى أصول تاريخية وفقهية فى قلب الإسلام ذاته. ولم يطل الوقت حتى ربط بين ذلك البيان، ولجوء الخليفة عمر بن الخطاب إلى طرد يهود خيبر ومسيحيى نجران من جزيرة العرب، تنفيذا لوصية النبى محمد كما كتب!
ثمة، هنا، امتزاج دائم بين التغطرس الاستشراقى (بمعنى الانطلاق من أن معضلة الإسلام لا تُحل إلا بخضوعه، أو حتى إخضاعه، إلى القِيَم الغربية، والثقافة اليهودية ـ المسيحية تحديدا)؛ وبين تصَهْيُنٍ يُدرج الصهيونية لا كفلسفة سياسية واستيطانية (وعنصرية، بالضرورة)، بل يلقى على عاتقها مهمة تمدينية على غرار ما زعمت المشاريع الاستعمارية أنه واجبها إزاء الشعوب المستعمَرة.
طرد 850 ألف فلسطينى خلال سنوات قليلة أعقبت تأسيس الكيان الصهيونى قبل وبعد 1948 لم يكن سوى عاقبة لتخلف الشعب الفلسطينى، وللفشل السياسى الذى عانت منه المنطقة؛ وهذا، أيضا، كان تفسيره للمشاريع الاستعمارية والإمبريالية، وواحدة من أبرز نقاط النقد المعمق الذى جوبه به لدى عدد من كبار مؤرخى الغرب المختصين بدراسة الإسلام.
طريف، هنا، أن يتذكر المرء واقعة توضح طبائع استثمار لويس لما يتبحر فيه ويعرفه من تاريخ الإسلام والمسلمين. ففى 8 أغسطس 2006 نشر مقالة أثارت ضجة عالمية، لأنه تنبأ بأن إيران سوف تشن هجوما نوويا على إسرائيل، وربما بعض البلدان الأخرى فى الغرب، يوم 22 أغسطس تحديدا. لماذا؟ لأن ذلك اليوم يصادف 27 من رجب، سنة 1427 للهجرة، أى يوم الإسراء والمعراج، الذى قد يكون مناسبا أيضا لعودة الإمام الشيعى الثانى عشر من غيبته، حسب تأويل الرئيس الإيرانى يومذاك، محمود أحمدى نجاد. صدقوا أن هذا ما تنبأ به «بطريرك الاستشراق»، ولم تُنشر النبوءة فى مطبوعة صفراء أو موقع تنجيم وتخريف، بل فى صحيفة «وول ستريت جورنال» دون سواها!
***
وفى الاحتفاء بالعيد المائة لميلاد لويس، تساءل إيتمار رابينوفتش، رئيس «معهد إسرائيل» وسفير دولة الاحتلال الأسبق لدى أمريكا: «هل يمكن للمرء أن يكون، فى آن معا، صهيونيا ومؤرخا كبيرا للإسلام؟». إجابته كانت الـ«نعم»، بالطبع، ولسبب كان فى نظره طافحا بالمنطق: «لا أحد، عادة، يسأل ما إذا كان فى وسع باحث أمريكى بروتستانتى، يعيش فى أمريكا خلال زمن الحرب الباردة، أن يكون مؤرخا كبيرا لروسيا وخبيرا بالسياسة الخارجية السوفييتية»! هكذا ببساطة، إذن: الصهيونية نظيرة البروتستانتية، والإسلام نظير القضية الفلسطينية، وبالتالى فى وسع لويس أن يؤرخ للملفين معا، بلا أى حرج أو طعن فى المصداقية. «إنه أولا وأساسا باحث، ومؤرخ قدس المعايير المهنية. وهو شديد الاهتمام بالسياسة، وقد أسهم كمثقف عمومى فى كثير من النقاشات حول الشرق الأوسط. كما أنه يهودى فخور، وداعم ملتزم للدولة اليهودية»، تابع رابينوفتش.
والحال أن لويس رأى، على الدوام فى الواقع، أن الشرق الأوسط سرمدى جامد ثابت، ولن يتغير إلا على نحو أسوأ، على يد الأصوليات والأصوليين؛ «حين تدخل الثورة الإسلامية طورها النابوليونى أو الستالينى فتتمتع، مثل أسلافها اليعاقبة والبلاشفة، بفضيلة وجود طوابير خامسة فى كل بلد وجماعة على صلة بخطابها الكونى العام»! وهو لا يعيد استظهار الكليشيهات القديمة، التى كررها وأعاد تكرارها، فحسب؛ بل يذهب أبعد حين يرد البغض العربى والإسلامى للولايات المتحدة إلى عنصر «الحسد» من قوة عظمى مهيمنة غنية متقدمة، لم تخسر أى حرب منذ تأسيسها! نعم، الحسد فقط، وليس سياسات الولايات المتحدة فى الانحياز الأقصى لدولة الاحتلال، وغزو الشعوب، ومساندة طغاة العرب وناهبى الثروات ومبددى المليارات على عقود الأسلحة الفلكية…
أيضا، واستطرادا، يساجل لويس بأنه لا فائدة تُرجى من محاولات إصلاح العرب والمسلمين، لأنه ما من أمل فى مصالحتهم مع قِيَم الغرب؛ هذه التى يحدث الآن أنها تُفرض على الجميع، بالترغيب أو بالترهيب، بوصفها قِيَم العالم بأسره. ونبوءته الرهيبة للأقدار التى ستواجه المسلمين، والعرب خصوصا، تسير هكذا: «إذا واصلت شعوب الشرق الأوسط السير على طريقها الراهن، فإن صورة الانتحارى الفلسطينى يمكن أن تصبح استعارة تمثل المنطقة بأسرها، ولن يكون هنالك مفر من الانحدار نحو الكراهية والحقد، والغضب وكره الذات، والفقر والقمع». هكذا، دون أى تأصيل اجتماعى أو سياسى أو تاريخى أو استعمارى لجذور صعود الإسلام الجهادى، الضاربة فى تاريخ المنطقة وعقائدها.
تبقى حكاية أخيرة، لا تختصر جوهر ثمانين حولا من اشتغال لويس على شئون الإسلام وشجون المسلمين، فقط؛ بل لعلها الكاشف الأوضح على الباطن الذكورى فى استشراقه، وأنه لم يخرج كثيرا عن عقلية إدوارد لين، سلفه البريطانى الذى ترجم «ألف ليلة وليلة» وكأنها أولا كتاب فى الفنون الإباحية. سُئل لويس، خلال ندوة مع محررى مجلة «أتلانتيك» الأمريكية، عن انطباعه حين زار الشرق الأوسط للمرة الأولى، فقال: «كنت طافحا بالعاطفة، مثل عريس شرقى يوشك على رفع الخمار عن عروسه التى لم يقع بصره عليها من قبل». فأى «تبحر» أكثر غطرسة فى ملاقاة الشرق، وأشد تحقيرا لأهله وثقافته، وأوضح نزوعا إلى انتهاك الآخر!

القدس العربى – لندن
صبحى حديدى

التعليقات