«مقاتل فى فلسطين».. يوميات عمرها سبعون سنة بخط يد «جمال عبدالناصر - عبد الله السناوي - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 12:35 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

«مقاتل فى فلسطين».. يوميات عمرها سبعون سنة بخط يد «جمال عبدالناصر

نشر فى : الخميس 24 مايو 2018 - 10:10 ص | آخر تحديث : الخميس 24 مايو 2018 - 10:10 ص

- وصف فى مذكراته قيادة الجيش المصرى بـ«العاجزة والهزلية».. واعترض على أمر انسحاب القوات من الخليل


- اعتبر إهانة «الشاذلى» لضباط المشاة وقاحة غير متناهية.. وأصيب بشظيتين فى صدره خلال المواجهات


- كتب: «فقدنا الإيمان فى قيادة الجيش والبلاد.. هؤلاء المضللون الممثلون ماذا عملوا بعد أن دخلنا الحرب»


- المواقع المصرية فتحت النار على البطل أحمد عبدالعزيز ورفاقه بعد أن عادوا من مؤتمر العرب واليهود فى القدس


- ورد تعبير «إسرائيل المزعومة» لأول مرة فى يومياته يوم ٢١ ديسمبر.. ووثق شعار «نقاتل ولا نستسلم» فى أوراق الحرب


 

لم يكن بوسع الضابط الشاب، وهو يصل بقطار عسكرى إلى غزة يوم (٣) يونيو (١٩٤٨)، أن يتوقع، أو يمر بخاطره، أن تجربة الحرب فى فلسطين سوف تحكم حياته وتدفعه ـ بعد توقف معاركها والعودة للقاهرة ـ إلى إعادة بناء تنظيم «الضباط الأحرار» وتشكيل هيئته التأسيسية، التى أطلت على مسارح السياسة الملتهبة يوم (٢٣) يوليو (١٩٥٢).

كانت حرب فلسطين السبب المباشر الأول للثورة فى مصر.

هذه حقيقة لا يمكن نفيها فى ظل ما سجله رئيس أركان الكتيبة السادسة فى دفتر يومياته الشخصية، التى كتبها على مكتب فوقه لمبة غاز أثناء الحرب.

أصدق ما ينسب لرجل ما يكتبه بخط يده تعبيرا عن مشاعره ومكنونات نفسه فى لحظة الحدث دون توقع أن أحدا سوف ينظر فيما كتب، ولو بعد عشرات السنين.

هكذا بدت المفاجأة كاملة عند نشر يوميات «جمال عبدالناصر»في حرب فلسطين بخط يده.
على مدى ستين سنة كاملة لم يتح لأحد من معاونيه ومقربيه وأسرته نفسها أن يدخل فى علمه أنه كتب يوميات شخصية أثناء الحرب وأنها فى عهدة «محمد حسنين هيكل» منذ عام (١٩٥٣).
احتفظ الأستاذ «هيكل» بسره لخمس وخمسين سنة حتى أودع لدى نسخة مصورة من اليوميات عام (٢٠٠٩).

قيمة اليوميات الشخصية لا تضاهى بأية أوراق أخرى منسوبة إلى «عبدالناصر» بقدر ما تكشف من انطباعات واستنتاجات تدخل فى التكوين الإنسانى والعسكرى للضابط الشاب، الذى لم يكن يعرف مصيره، يعيش أو يستشهد، قبل أن يقدر له أن يصبح رجل مصر القوى بعد أربع سنوات.

(١)
بخط يده سجل انتقادات على درجة عالية من الحدة والغضب لمستوى الأداء العسكرى وجهوزية القوات ومدى تسليحها، فـ«لا يوجد احتياط مطلقا من الفصيلة للواء… ولا يوجد أسلاك أو أى تحصينات سوى الحفر».
بعد أقل من شهر على التحاقه بميادين القتال ـ الثلاثاء (٢٩) يونيو ـ كتب عن وقائع مؤتمر عسكرى بمقر كتيبته حضره «الشاذلى» ـ هكذا كتب اسمه مجردا من أية رتبة عسكرية رغم أنه من ضمن الهياكل القيادية فى حرب فلسطين، ولا أسبغ عليه رتبة مدنية مثل الـ«بك»، كما كانت العادة وقتها عند الحديث عن القيادات الأقدم.
فى المؤتمر أهان ذلك القائد العسكرى ضباط الكتيبة قائلا: «أى ضابط فى المدفعية أحسن من بتوع المشاة».
كتب: «كان فى منتهى الوقاحة».
«وقد جر عليه ذلك ثورة من الجميع وصلت إلى أن نعمة الله بك رد عليه بالقول: إن عساكر وضباط المشاة بيهاجموا على المواقع اليهودية بالقميص، وبدون أى أسلحة مدرعة، الأمر الذى لم تسمع عنه».
من هو؟.. ومن أية زاوية نظر إلى عواصف النار حوله؟
كتب معترضا على أمر انسحاب من الخليل تلقاه يوم الخميس (٢١) أكتوبر:
«.. إن انسحابنا سيعرض جميع السكان فى عراق سويدان وبيت جبرين إلى التشريد، أو الوقوع فى قبضة اليهود..
تصورت منظر الأطفال والنساء والعائلات عند انسحابنا..
وكيف سيحتل اليهود عراق المنشية والفالوجة..
وكيف إذا استمرت الحرب سنحاول استعادة هذه البلاد التى حصناها..
عراق المنشية مثلا التى وقفت أمام دبابات العدو وجموعه..
كل ذلك سيستولى عليه اليهود..
وسيكون من العسير..
بل من المحال استرجاعها».
«قيادة عاجزة وهزيلة».
عبارات مماثلة تكررت بأكثر من موضع.
«.. أخطرناهم أن الطريق إلى بيت جبرين محتل بالعدو..
ولا توجد ذخيرة منذ عشرة أيام..
ولكن رغم ذلك يتجاهلون ويصدرون أوامر..
هذه القيادة الهزيلة هى التى تسببت فى كل هذه المصائب..
والحقيقة أنه لا توجد قيادة للجيش المصرى فى فلسطين..
نفس التقاليد العتيقة..
ونفس المظاهر والتمثيل بدون إنتاج..
لقد كون اليهود جيشا به دبابات وقوة دافعة فى أربعة أشهر..
واستطاعوا أن يقطعوا أوصال الجيش المصرى..
ويعزلوه فى جيوب متفرقة..
ويقطعوا خطوط مواصلاته فى عملية استغرقت ثلاثة أيام».
«أما قياداتنا فعاجزة كل العجز..
لا يوجد عسكرى واحد احتياطى ليستعيدوا به الموقف..
ففكروا فى كل شىء، وهو الهرب والنجاة بأنفسهم.. كان (أحمد) المواوى (قائد الحملة) عاجزا..
فإنه قائد بدون جنود، وبدون جيش..
اللواء الثانى منعزل فى أسدود..
واللواء الرابع منعزل فى النقب..
واللواء الجديد فى مصر منذ خمسة أشهر لم يكمل تدريبه..
أما اليهود فقد كونوا سلاح طيران سيطر على الجو طوال مدة العمليات».
وصل غضبه إلى مداه يوم (٢٨) أكتوبر (١٩٤٨):
«.. قادتنا المنافقون يصدرون بلاغات كاذبة.
بعدما استولى اليهود على بئر سبع فعلا رغم تكذيب (محمود فهمى) النقراشى (رئيس الحكومة)..
وبالرغم من طلبنا تعيينات وذخيرة بواسطة الطيران..
وبالرغم من أن طلباتنا لم تجب..
ولم يلتفت إليها..
فسنقاوم إلى آخر رجل..
لقد فقدنا الإيمان فى قيادة الجيش..
وقيادة البلاد.. هؤلاء المضللون الممثلون..
ماذا عملوا بعد أن دخلنا الحرب..
لا شىء..
لم تصل أى إمدادات للأسلحة التى دخلنا بها».
هذه اليومية ـ بتوقيتها ومشاعر غضبها ـ تكاد تؤرخ للبداية الحقيقية للثورة فى قلب رجل، كأنها نقطة تنوير مبكرة فى نص روائى طويل.

(٢)
كانت أولى يومياته الشخصية غامضة وشفرتها يصعب فكها.
سجل يوم (٣) يونيو (١٩٤٨) أنه عرف فور وصوله إلى غزة أن «محمود بك لبيب» موجود فى معسكر المتطوعين.
ذهب إلى المعسكر ليلتقيه، لم يجده، وفى الطريق قابله مع الشيخ «محمد فرغلى» حيث اتفقوا أن يصلوا الجمعة سويا باليوم التالى.
رغم غموض طبيعة العلاقة، التى لم يشر إليها من قريب أو بعيد، لا بالتصريح ولا بالإيحاء، فإن القصة المقتضبة بكلماتها وحروفها تكتسب قيمتها التاريخية من أن الرجلين من قيادات جماعة «الإخوان المسلمين».
الأول ـ أبرز قادتها العسكريين وأكثرهم نفوذا وتأثيرا داخل الجماعة.
والثانى ـ عضو مكتب الإرشاد وخازن سلاحها.
قبل الموعد المضروب للحديث ـ ربما ـ عن أحوال المتطوعين وأوضاع القتال جرى تكليف «عبدالناصر» بمهمة استكشاف فى «دير سنيد» و«المجدل» و«أسدود» حيث قابل فى المحطة الأخيرة «عبدالحكيم عامر».
حتى نهاية اليوميات مطلع (١٩٤٩) لم يأت على ذكر «محمود لبيب» والشيخ «فرغلى» مرة أخرى.
يسهل استنتاج أن هناك صلة سابقة مع الضابط المتقاعد «محمود لبيب»، وبدرجة أقل مع الشيخ «محمد فرغلى».
«لبيب» مات قبل ثورة يوليو.. و«فرغلى» من الذين ناهضوا داخل مكتب الإرشاد التعاون مع «يوليو»، أو حل الجهاز الخاص، واتهم بالضلوع فى محاولة اغتيال «عبدالناصر» عام (١٩٥٤) وحكم عليه بالإعدام.
كان الصدام مروعا.
السؤال ـ هنا: ما حجم ودور الجماعة فى حرب فلسطين؟
كانت أعداد متطوعيها ـ حسب التقديرات الرسمية ـ فى حدود (١٢٣) رجلا عملوا تحت قيادة الحاج «أمين الحسينى» مفتى فلسطين وتمركز نشاطهم فى منطقة غزة، حيث قابل «عبدالناصر» القيادتين الإخوانيتين.
تولى مسئولية هؤلاء المتطوعين «محمود الشريف» شقيق «كامل الشريف»، وكلاهما حصل ـ فيما بعد ـ على الجنسية الأردنية.
لا يوجد إحصاء آخر لأية أعداد قد تكون التحقت بهم بعد بدء الحرب، ولا جرت دراسة مدققة فى التكوين الرئيسى للمتطوعين المصريين باختلاف توجهاتهم من عسكريين ومدنيين.
بأية قراءة فيما هو منشور ومتوافر من وثائق وبرقيات الحرب فإن ما قامت به الجماعة لا يقارن على أى وجه بما قام به المتطوعون تحت قيادة البكباشى «أحمد عبدالعزيز».
وقد كان حزن اليوزباشى «جمال عبدالناصر»، الذى ترقى لرتبة الصاغ يوم الأربعاء (٢٨) يوليو، عميقا على استشهاد البطل «أحمد عبدالعزيز».
«علمت اليوم ـ (٢٣) أغسطس ـ خبرا لم أصدقه لأول وهلة أن أحمد عبدالعزيز قتل أمس عند عودته من بيت لحم..
وتفصيل الأمر أن أحمد عبدالعزيز وصلاح سالم والوردانى عادوا بعد مؤتمر العرب واليهود بالقدس لمقابلة المواوى..
وعندما اقتربوا من عراق المنشية نحو الساعة ٢٠٠٠ فتحت عليهم نيران من المواقع المصرية..
فكان أحمد عبدالعزيز هو الضحية.
لقواتنا بعض العذر، فإن اليهود يخرقون الهدنة يوميا فى هذا المكان..
محاولين العبور إلى المستعمرات الجنوبية..
قد تألمت جدا فإن أحمد عبدالعزيز كان يحب أبناءه..
وكان فى عز مجده الذى لم يجاز عليه، ولم يره الشعب ولم يستقبله.
مات أحمد عبدالعزيز وكله أمل فى الحياة.
لقد تألمت جدا.. لهذه الآمال التى انهارت..».
كان ذلك البطل الذى رحل فى ميادين القتال هو الملهم الحقيقى لمعانى التضحية وسط الضباط الشبان وأثره يتعدى أى قائد عسكرى آخر من رتب أعلى مثل الفريق «عزيز المصرى»، الذى نسبت إليه أبوة «الضباط الأحرار».
تحت اختبار النار اقتنع «جمال عبدالناصر» بصحة ما ذهب إليه «أحمد عبدالعزيز» من أن التغيير يبدأ من القاهرة.
يستلفت الانتباه فى يومياته أن أعدادا كبيرة من الضباط والجنود الأقباط شاركوا فى الحرب ودفعوا فواتير الدم.
من هذه الأسماء الضابط «كمال بشارة»، وقد شارك «عبدالناصر» تجربة الحياة والموت والنوم فوق بطانية واحدة والتغطى بأخرى، الثقة فيه بلا حد والإعجاب بنسقه الأخلاقى والعسكرى مسجل بخط يده حين وبخ من تورطوا فى التمثيل بجثث القتلى اليهود فى منطقة المحجز يوم السبت (٢) أكتوبر.
لا توجد معلومات عن «بشارة»، أو ما إذا كان «عبدالناصر» قد فاتحه فى الانضمام للضباط الأحرار.
وقد كان خلو التنظيم من أية شخصية تنتمى إلى الديانة المسيحية مادة اتهام طاردت التنظيم كله.
لم يكن ذلك صحيحا على أى وجه ومن أى زاوية فى نظر قائد «الضباط الأحرار» إلى الحرب وأبطالها وضحاياها.
فى اليوميات لا تخفى إشارات مبطنة عن اتصالات ما وخطابات ترسل إلى القاهرة فيما بين أعضاء التنظيم.
تكررت على نحو لافت أسماء قدر لها أن تلعب أدوارا محورية فى المستقبل كـ«زكريا محيى الدين» و«خالد محيى الدين» و«صلاح سالم» و«ثروت عكاشة» و«حمدى عاشور» و«حسن إبراهيم» و«حسن التهامى» و«لطفى واكد».
كان الاسم الأكثر تكرارا «عبدالحكيم عامر»، أو «حكيم» كما كان يكتب اسمه، بصورة تبدت فيها صداقة شخصية وعائلية عميقة.
لم يكن «عبدالناصر» وحده من كتب يومياته أثناء حرب فلسطين.
عادة التدوين شملت ضباطا آخرين من جيله، بينهم «زكريا محيى الدين»، التى لم يتسن نشر يومياته وما زالت مودعة فى أرشيف عائلى بين أكوام ورق تعود لفترة تأسيسه عام (١٩٥٣) للمخابرات العامة المصرية.
غاب تماما أى ذكر ـ من قريب أو بعيد ـ للواء «محمد نجيب»، رغم أن الأخير ذكر فى شهادة منشورة أنه تعرف أثناء حرب فلسطين على «جمال عبدالناصر» و«كمال الدين حسين» عن طريق «عبدالحكيم عامر».
بغض النظر عن أية تقديرات سياسية للرجال والأدوار مما يحسب لـ«نجيب» تحمله مسئولية الموقف الصعب، الذى كان ممكنا أن يدفع ثمنه حياته مع «عبدالناصر» ورفاقه.
لم يكن قائد الحدث الكبير لكن وجوده على رأسه ساعد بقسط وافر فى نجاحه.
بتحفظ واقتضاب أشار «عبدالناصر» يوم الثلاثاء (٦) يوليو إلى لقاء أول وأخير جمعه بالملك «فاروق».
«حضر صاحب الجلالة الملك للمرور على المواقع ووصل إلى أقصى المواقع الأمامية».
لم يزد حرفا واحدا.

(٣)
تحت وهج النيران على الخط الفاصل بين الحياة والموت كاد أكثر من مرة أن يستشهد.
«كان الرصاص يمر فوق رءوسنا..
حاولنا معرفة مواقع العدو ولكنها كانت مختفية فاستترنا خلف إحدى الحمالات..».
«لاحظت أن هناك دما يتساقط على القميص..
فسألت الجاويش عبدالحكيم، الذى أخبرنى أن هناك جرحا بسيطا فى ذقنى..».
«ثم قمت للعودة.. فقام العدو بإطلاق نيران شديدة على الحمالة فشعرت أنى أصبت فى الصدر من الجهة اليسرى..
ونظرت فوجدت أن الدماء تبلل القميص حول الجيب الشمال وأن القميص به خرم متسع..
وكان محل الإصابة يظهر فى منتهى الخطورة.. فوق القلب».
أخبره الطبيب أنها شظية وليست رصاصة، وجرى نقله إلى مستشفى المجدل.
«فى غرفة العمليات وُجدت شظيتان بالجرح».
«ارتفعت روحى المعنوية وحمدت الله فأول ما خطر على بالى عند الإصابة كان الأولاد وأمهم..
والحقيقة أنه عندما عرفت محل الإصابة.. فقدت الأمل فى النجاة ولكن الله كريم».
هكذا كتب يوم الاثنين (١٢) يوليو (١٩٤٨).
ثم عاد يوم الأحد (١٢) سبتمبر ليروى قصة أخرى أطل فيه الموت على المكان.
«الحمد لله.. دخلت فى حقل ألغام بنوع من الخطأ..
وخرجنا بعون الله..
وفى العودة اصطدمت بعربة من ك١..
ولكن الله سلم..».
لم يدع أى شجاعة وقابل قدره برضا وسرى فى يومياته إيمان عميق بأن هناك ما يستحق الموت من أجله.
الحرب اختبار رجال أمام الموت المحتمل فى أية لحظة واختبار للمعانى التى يقاتلون من أجلها.

(٤)
كانت المفاوضات التى دخلتها القوات المصرية المحاصرة مع القوات اليهودية ـ كما كان يطلق عليها فى أدبيات ذلك الوقت ـ من أهم المحطات التى تعرض لها وعكست طبيعة نظرته للعدو الذى يقاتله.
كتب بخط يده يوم الأحد (٣١) أكتوبر.
«القائد اليهودى يحضر فى عربة عليها علم أبيض..
ذهبت لمقابلته..
يطلب منا التسليم..
نرفض..
يطلب أخذ جثث قتلاه..».
فى اليوم التالى كتب:
«جمع جثث قتلى اليهود حسب الاتفاق».
«العدو ينقض اتفاقية إيقاف القتال بعد استلام جثث القتلى بساعة..
فى الأربعاء (٣) نوفمبر كتب بالحرف:
«نقاتل.. ولا نستسلم».
بعد ثمانى سنوات استعاد نص هذه الجملة بحروفها ومشاعرها من فوق منبر الأزهر الشريف حين أعلن مقاومة العدوان الثلاثى عام (١٩٥٦).
فى الأربعاء التالى (١٠) نوفمبر كتب:
«حضرت الساعة ١٥٠٠ مصفحة يهودية من الشرق، عليها علم أبيض..
طلب الضابط الموجود فى العربة أن يحدد ميعادا ليتقابل فيه قائد الفرقة اليهودية مع قائد قواتنا» ـ الأميرالاى «السيد طه»، الذى اشتهر بـ«الضبع الأسود».
بعد يوم واحد:
«تقابلت مع الضابط اليهودى الساعة ١٠٠٠..
وبلغته أن القائد وافق على مقابلة القائد الصهيونى بين الساعة ١٥٠٠ والساعة ١٦٠٠..
فقال إنه يأسف لعدم اتفاقنا على المكان..
وإن هذا المكان بين الخطوط..
فى الشمس غير مناسب..
إذ إن قائده يرغب فى أن نتناول فنجانا من الشاى سويا..
وهو يخيرنا بين جات وبيت جبرين..
اتفقنا على الاجتماع فى جات..
وسيقابلنا منتصف الطريق الساعة ١٥١٥..
توجهنا السيد على طه، ورزق الله الفسخانى، وجمال عبدالناصر، وإبراهيم بغدادى، وخليل إبراهيم إلى الجات.
قوبلنا مقابلة حسنة..
وكان الفرق شاسعا بين جات وعراق المنشية..
فإن الشخص يشعر بأنه بين قوم متمدنين..
الآلات الزراعية الميكانيكية والنظافة والنساء فى ملابس زاهية يلبسن الشورت..
واجتمعنا مع اليهود..
تكلم القائد اليهودى..
وقال: إنه يرغب أن يمنع سفك الدماء..
وأن موقفنا ميئوس منه..
وطلب أن نسلم..
فاعترض القائد المصرى وطلب الانسحاب إلى غزة أو رفح..
فمانع اليهود..
وقالوا إنهم يوافقوا على شرط أن يخرج الجيش المصرى من كل فلسطين..
وطلبنا إجلاء الجرحى إلى غزة..
لكنهم رفضوا ذلك..
قالوا إنهم مستعدون أن يعطونا ما نرغب من أدوية..
وأخيرا خرجنا..
وقد قدموا لنا عصير برتقال، وبرتقالا، وساندوتشا، وشيكولاتة، وملبسا وبيتى فور وبسكويتا..
أبلغتنا الرياسة أن قافلة ستحضر..
كلمة السر حسان..
وأن جلالة الملك أرسل تلغرافا يشكر فيه الجميع، ويشجعهم..
وقد رقى السيد طه إلى أميرالاى مع رتبة البكوية».
هكذا سجل وقائع التفاوض التى جرت فى مستعمرة «جات» تحت إشراف هيئة مراقبى الأمم المتحدة، وكان الطرف اليهودى يقوده البريجادير «ييجال أللون» قائد الجبهة الجنوبية، رئيس الأركان الإسرائيلى ونائب رئيس الوزراء فيما بعد.
لم تمنع الحرب وأجواء التحدى حتى الموت الضابط الغاضب من أن ينظر فيما يتمتع به عدوه من عوامل قوة والتحاق بالعصر فى أسلوب حياته.
فى اليوم التالى (١٢) نوفمبر اشتد الضرب على القوات المصرية المحاصرة.
«عرضت القيادة الانسحاب ولو بتكسير السلاح..
كان الرأى أن ذلك مستحيل فإن العدو من جهة الشرق يتحكم فى كل الطرق».
بعد يوم واحد ـ السبت (١٣) نوفمبر:
«كان من المنتظر وصول الصليب الأحمر، لكنه لم يصل..
علمنا فى المساء أن اليهود منعوه من المرور عند التقاطعات وضربوا أعضاءه» .
بعد يوم آخر:
«وصلت الساعة ١١٠٠ عربة عليها بيرق أبيض..
وبلغنا الضابط اليهودى أنه مستعد لإعطائنا أدوية..
وأخذ الجرحى إلى مستشفياتهم على أن يكونوا أسرى حرب..
وافق القائد على أخذ الأدوية..
ولكنه قال: إنه مصمم على إخلاء الجرحى بواسطة الصليب الأحمر إلى خطوطنا..
واتفقنا على أن نتصل الساعة ١٩٠٠ باللاسلكى مع اليهود لأخذ الرد بعد أن استلموا كشف الأدوية..
المطر مستمر..
وقد تقابلت مع القائد اليهودى تحت المطر..
وتكلمنا فى مواضيع عامة..
فقال إنه يرجو أن لا نكون متعبين فى المطر..
سأل.. هل بمصر الآن مطر بهذا الشكل…؟
وقال: إنه يرجو أن يسود السلام..
وأن نرجع آمنين سالمين..
وتكلم، فقال: إن بريطانيا هى التى زجت بنا لتحقيق أغراضها..
وإنهم قد تمكنوا من طرد الإنجليز من فلسطين..
ويرجون أن نطردهم كذلك..
وأن نتعاون سويا..
ما زال الضرب كالعادة..
عدو لا يحفظ العهد..».
فى رواية نشرها الكاتب الصحفى «محمد عودة» نقلا عن شهادات إسرائيلية فإن الضابط اليهودى «يورهان كوهين» قال للصاغ «جمال عبدالناصر»:
«أريد الحديث معك كرجل عسكرى. هذا موقعكم وهذه قواتنا وقوة نيراننا، فهل ترى أن لكم مخرجا غير التسليم وسوف تخرجون بأسلحتكم وكرامتكم مكفولة».
«رد الصاغ المصرى: كعسكرى أوافقك ولكن كمصرى ليس التسليم على أجندتنا».
قرب نهاية الحرب، ورد تعبير «إسرائيل المزعومة» يوم الثلاثاء (٢١) ديسمبر لأول مرة فى يوميات «جمال عبدالناصر».