فضفضة - نيفين مسعد - بوابة الشروق
الخميس 25 أبريل 2024 5:11 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

فضفضة

نشر فى : الخميس 24 يناير 2019 - 10:05 م | آخر تحديث : الخميس 24 يناير 2019 - 10:05 م

في مثل هذا اليوم قبل ثمان سنوات كانت مصر على موعد مع حدث كبير وإن كانت ساعات الصباح الأولى توحي بأن شيئا لن يحدث. لم نكن هنا في مصر قد لاحظنا أن صباح تونس بدا عاديا أيضا قبل ساعات قليلة من إشعال محمد البوعزيزي النار في نفسه، وعندما انفجرت الثورة التونسية تعاملنا معها بوصفها استثناء. ولم ينتبه آخرون من بعدنا إلى أن صباحات اليمن وسوريا وليبيا كانت بدورها تبدو عادية قبل أن يتظاهر المئات في صنعاء وبني غازي تضامنا مع متظاهري تونس ومصر وقبل أن "يُشَخبِط" الصغار على جدران درعا السورية بكلمات: الشعب يريد إسقاط النظام. كان داخل المرجل يغلي في بلدان عربية كثيرة وكان هذا معلوما، لكن أحدا لم يكن يعلم على وجه اليقين متى يُطاح بالغطاء ولا كيف يُطاح به وفي أي اتجاه، فثمة أياد كان يمكن أن تتدخل في اللحظات الأخيرة لتخفف الضغط وتسمح لبعض البخار بأن يتسرب. في غمرة الفوران الشعبي قال أحد الرؤساء الآن فهمتكم، وقال آخر أمهِلوني شهورا ستة لا أكثر، ولو تم الركون لتلك الأقوال لهدأت الأوضاع وعادت عقارب الساعة للوراء لكن الاحتقان لم يخف ولا عادت العقارب، أما حيثما تم الضغط بقوة على الغطاء ومُنِع تسريب البخار فإن الانفجار كان عنيفا .
***
عندما أستعيد حصاد ثورة يناير على المستوى الشخصي أقول إن الخامس والعشرين من يناير عام ٢٠١١ غيّر لديّ أفكاراً كثيرة. كنت أظن أنه يكفي بالنسبة لي كمواطنة صالحة أن أعمل بإخلاص حتى ينهض الوطن، وأنني لا أحتاج إلى ممارسة أي نشاط سياسي من أجل تغيير الوضع العام إلى الأفضل، فمثل هذا التغيير سيتحقق تلقائيا بمرور الوقت ودون حاجة إلى العمل السياسي. من هذه الزاوية ربما يقال إن باب النجار كان "مخلعا"، فأنا أقوم بتدريس السياسة من عقود لكنني أعزف عن ممارستها وأتكلم عن المشاركة السياسية ثم أقاطع الانتخابات، ومع ذلك لم أكن أشعر قبل يناير بأي عيب في باب النجار حتى جاءت لحظة التغيير. وجدتُ شبابا ميسورا يثور من أجل العِيش رغم أن العِيش متوفر لديه، ويطالب بالعدالة الاجتماعية رغم أن هذه العدالة قد تقلل من مكاسبه. أدرك الشباب أن الإنجازات الفردية هي شرط ضروري لتحقيق نهضة الوطن، لكنها وحدها ليست شرطا كافيا، فلا نهضة بدون الحكم الصالح، وفوق ذلك فإنه بدون بوصلة سليمة تحدد من ينجز ماذا وكيف ينجزه ووفق أي رؤية فإن العشوائية قد تضرب الإنجازات الفردية. وهكذا سحبتني الثورة إلى عالم السياسة كما سحبت كثيرا من أبناء جيلي والجيل الأكبر، حتي إذا غرقنا في بحور السياسة كان الشباب قد قرر أن ينسحب، ومثلما عبّر الشباب عن غضبه بالثورة فإنه عبّر عن إحباطه بالانكفاء، ومن هنا نشأت الظاهرة التي لازمت العديد من الاستحقاقات الانتخابية التي مرت بها مصر: ظاهرة حضور كبار السن وغياب الشباب .
***
ولأن السياسة ليست مجرد طوابير انتخابية، فإنه مع تغيُر مفهومي للدور المطلوب أدائه في المجتمع رأيتني أشارك بصور مختلفة في العديد من الأطر السياسية التي أخذت تتشكل تباعا، وذلك بدءا بلجنة الحكماء والمجلس الاستشاري وانتهاء بجبهة الإنقاذ وحملة تمرد. اقتربتُ من تيارات وأحزاب كثيرة وأوشكت أن أترشح على القائمة الانتخابية لأحدها عام ٢٠١٥، وهذه الخطوة بالذات لو اكتملت لمثلت انقلابا على تصوري القديم لمعنى المواطن الصالح لأنها كانت تعني الانتقال إلى جوهر الصراع السياسي. كان توزعي بين أُطر حزبية متنوعة لا تتشابه أفكارها وإن تقاطعت، هذا التوزع كان أشبه ما يكون برحلة بحث عن الذات السياسية، أو إذا شئت الدقة قلت كانت رحلة بحث عن التعبير الحزبي المناسب عن ذاتي السياسية، رحلة متأخرة بالتأكيد لأن الأسئلة عادة ما تثار في شرخ الشباب، لكن هذه أيضا إحدى المقولات التي تحدتها ثورة يناير: لا يوجد تاريخ صلاحية لرحلة البحث عن الذات .
***
في لحظة من لحظات الفضفضة أسأل نفسي: ماذا أضاف لي العمل السياسي وماذا أخذ مني؟ أضاف لي خبرة بالتأكيد فكل تجربة جديدة تحمل خبرة ، أتاح لي أن أرى ميلاد ثورة وأعاصر الصراع في داخلها وعليها، جعلني أقدر من ذي قبل على أن أميز بين المعادن وأن أرى الذهب ذهبا ولا أنخدع في سواه، أكسبني رصيدا من العلاقات الإنسانية الثمينة والصداقات الحميمة أصبَحَت تشغل ربع الحيّز المتاح في ذاكرة هاتفي المحمول. لكنه حوّلني إلى شخصية أكثر واقعية تعرف قواعد اللعبة السياسية بممكناتها ومستحيلاتها وأين يكون السير مجديا وأين تصير الطريق مسدودة، هل هذا عيب أم ميزة ؟ إن التغييرات الكبرى تبدأ بإطلاق الخيال ولا خيال ينطلق إن رفعت عدة طرق لافتة ممنوع الاقتراب، وفي هذا إجابة السؤال.
***
ذلك إذن كان حصادي الشخصي بعد أعوام ثمانية حلوُها حلاوته قاطعة ومُرُها شديد. نوع من بوح واحدة من الناس بنزر يسير من خبرتها مع الثورة، هذه الثورة التي تركت في داخلنا أثرا أعمق بكثير مما يظن الكثيرون.

نيفين مسعد أستاذة بكليّة الاقتصاد والعلوم السياسيّة جامعة القاهرة. عضو حاليّ فى المجلس القوميّ لحقوق الإنسان. شغلت سابقاً منصب وكيلة معهد البحوث والدراسات العربيّة ثمّ مديرته. وهي أيضاً عضو سابق فى المجلس القوميّ للمرأة. حائزة على درجتي الماجستير والدكتوراه من كليّة الاقتصاد والعلوم السياسيّة – جامعة القاهرة، ومتخصّصة فى فرع السياسة المقارنة وبشكلٍ أخصّ في النظم السياسيّة العربيّة. عضو اللجنة التنفيذية ومجلس أمناء مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت. عضو لجنة الاقتصاد والعلوم السياسية بالمجلس الأعلى للثقافة. عضو الهيئة الاستشارية بمجلات المستقبل العربي والسياسة الدولية والديمقراطية
التعليقات