في ستانفورد بين قرنين! - عمرو حمزاوي - بوابة الشروق
السبت 20 أبريل 2024 9:52 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

في ستانفورد بين قرنين!

نشر فى : الجمعة 23 مارس 2018 - 9:20 م | آخر تحديث : الجمعة 23 مارس 2018 - 9:20 م

 إلى المسرح الموسيقي لجامعة ستانفورد جاءت مساء السبت الماضي المغنية الألمانية أوتا لمبر (https://www.utelemper.com/) التي ذاع عالميا صيت أدائها لأغاني العظيمة الفرنسية اديت بياف (١٩١٥-١٩٦٣) والرائع البلجيكي جاك بريل (١٩٢٩-١٩٧٨) والأعمال الغنائية للألمانيين برتولد بريشت (١٨٩٨-١٩٥٦) وكورت فايل (١٩٠٠-١٩٥٠).

جالت السيدة لمبر بالحضور بين أغاني بياف الرومانسية وتلك التي عبرت عن أحلام البسطاء والمهمشين في المدينة الكبيرة (باريس)، وقدمت لأغاني بريل بحديث عن رؤيته النقدية لسيطرة المادة على مجتمعات القرن العشرين. وحين انتقلت من اللغة الفرنسية إلى الألمانية محمولة على كلمات بريشت وألحان فايل، شرحت للحاضرين مضمون فلسفة "المسرح والشعر والموسيقى من أجل الاشتراكية" التي أبدعها الرجلين ودفعت أولهما إلى الاستقرار في ألمانيا الشرقية بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية (١٩٣٩-١٩٤٥) وفرضت على الثاني ذي الديانة اليهودية الارتحال إلى الولايات المتحدة الأمريكية هربا من قمع النازيين وبحثا عن حرية الإبداع في المنفى.

أدت أوتا لمبر أيضا عددا من أغاني مارلينه ديتريش (١٩٠١-١٩٩٢)، الممثلة والمغنية الألمانية- الأمريكية التي كانت نجمة السينما الألمانية في ثلاثينيات القرن العشرين (كان فيلمها الأشهر آنذاك "الملاك الأزرق") ثم أرغمتها سيطرة النازيين على مقاليد الحكم على الهجرة إلى الولايات المتحدة حيث نجحت في أن تصبح نجمة صف أول في هوليوود. كرهت "مارلينه" حكم النازيين وفظائعهم، وشاركت مع الجيش الأمريكي في الحرب العالمية الثانية بالغناء للضباط والجنود على الجبهات الأوروبية، وحصلت على رتبة عسكرية شرفية وكرمت بعد انتهاء الحرب، ولم تعد أبدا للحياة في ألمانيا. فقط أوصت بأن تدفن في برلين بجوار والدتها، وهو ما تحقق لها بعد أن توفت بداية التسعينيات بمحل إقامتها في باريس. سردت السيدة لمبر روايات عن "مارلينه" التي عرفت بتقدميتها الفكرية والاجتماعية وبدفاعها عن حقوق المرأة، وربطت بذكاء مبهر بين أفكار ومواقف "الملاك الأزرق" وبين تحولات القرن العشرين في أوروبا والولايات المتحدة حيث تواكب من جهة أولى صعود اليسار والأحزاب الاشتراكية والشيوعية في بعض المجتمعات مع استيلاء الفاشيين على السلطة في مجتمعات أخرى ومع استقرار الحكومات الديمقراطية في فئة ثالثة، وتكاثرت من جهة ثانية الحروب المدمرة والصراعات العسكرية والجرائم ضد الإنسانية من محرقة النازيين إلى قنابل النابالم الأمريكية في فيتنام.

في حفلتها الغنائية على المسرح الموسيقي لجامعة ستانفورد، أعادت أوتا لمبر الحضور الغفير إلى القرن العشرين الأوروبي والأمريكي وتقلباته التي تلاعبت بوحشية بمصائر الناس، وواجهت مبدعين كبياف وبريل وبريشت وفايل وديتريش باعوجاجات متكررة في سيرهم الذاتية، وقضت بالرحيل المبكر لأربعة منهم عن عالمنا (دون الخمسين فيما خص بياف وبريل، وعند الخمسين بالنسبة لفايل، وفوق الخمسين بقليل في حالة بريشت). بل يبدو أن الطلب على "تذكر الماضي" هو الذي جاء بأغلبية الحضور إلى المسرح، فطغت المجموعات العمرية متقدمة السن مثلما ارتفعت نسبة تمثيل أصحاب الجذور الأوروبية الذين لم يتخلوا فيما بينهم لا عن الحديث بلغاتهم الأصلية الفرنسية والألمانية والإيطالية ولا عن عادات التدخين في الأماكن العامة (وهو الأمر الممنوع بالكامل في كاليفورنيا والمنظور إليه كسلوك اجتماعي مرفوض ومستهجن).

***

ومن أمسية "تذكر الماضي" الأوروبي والأمريكي في مسرح ستانفورد، من أمسية العودة إلى القرن العشرين وسط من عاصروا تقلباته من أوروبيين وأمريكيين بيض، انتقلت بعدها بأيام قليلة وبتنظيم من ستانفورد أيضا إلى القرن الحادي والعشرين في مدينة سان فرانسيسكو. بصورة دورية، تعقد إدارة الجامعة لقاءات مع كبار المستثمرين ومديري الشركات التكنولوجية الكبرى التي تتواجد مقراتها بالقرب من الجامعة وتربطها ببعض الأقسام العلمية (خاصة الهندسة وإدارة الأعمال) علاقات تعاون وثيقة. وعادة ما يكون الهدف من تلك اللقاءات تحفيز بعض المستثمرين وبعض المديرين على تقديم تبرعات لوقفية جامعة ستانفورد (في صيف ٢٠١٧، اقتربت قيمة الوقفية من ٢٥ مليار دولار أمريكي)، والتعرف على التخصصات العلمية التي تتوقع الشركات الكبرى الاحتياج إليها في المستقبل القريب لكي تضمن الجامعة ترجمتها في برامج تعليمية وتدريبية وبحثية (الاهتمام الأكبر اليوم هو بالذكاء الاصطناعي).

دعيت لحضور اللقاء، وذهبت إليه راغبا في الانفتاح على ذلك العالم الآخر ومتوجسا من قدرتي على الحوار مع الضالعين به. هو بالفعل عالم آخر، لا سياسة به ولا حديث عن الحروب والصراعات ولا عودة به إلى القرن العشرين وتقلباته ومآسيه. لا صوت به سوى صوت الاكتشافات العلمية المعاصرة، وبراءات الاختراع التي تتنافس على تسجيل العدد الأكبر منها عالميا الولايات المتحدة والصين وبعد العملاقين يأتي نفر محدود من البلدان الأوروبية والآسيوية، وشركات التكنولوجيا الجديدة والاستثمارات التي تقف خلفها وفرص نجاحها.

لا صوت بذلك العالم الآخر سوى صوت الثقة في قدرة التقدم العلمي والتكنولوجي على حل أزمات دنيا القرن الحادي والعشرين، من القضاء على سوء التغذية المنتشر في البلدان النامية إلى مواجهة "الأخبار الزائفة" والقرصنة الروسية، صوت ثقة الشركات الكبرى في أرباح طائلة لن تتوقف وقطار استثمارات يستطيل عالميا من الولايات المتحدة إلى الصين مارا بكل ما بينهما في الاتجاهين الأوروبي والآسيوي. عن لقاء سان فرانسيسكو غابت المجموعات العمرية متقدمة السن (لم أعثر على مشارك وحيد يتجاوز عمره منتصف الستينات)، وحضر جغرافيا (وعرقيا) خليط من الأمريكيين الشماليين (البيض) والأوروبيين والآسيويين والأمريكيين الجنوبيين والشرق أوسطيين لا رغبة لديه في النظر إلى الوراء ولا تعنيه السياسة من قريب أو بعيد ولا يريد قراءة ما يحدث في عالم اليوم بغير عدسة التقدم والاستثمار والأرباح. فيقيم ترامب على مسطرة النتائج الاقتصادية والتجارية لسياسات إدارته، وتصير الصين عملاقا تجاريا وتكنولوجيا لا أهمية حين التعامل معه لقضايا الحريات وحقوق الإنسان، وانفصال بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي يحمل في طياته فرصا لاستثمارات جديدة في بلدان تفصلها قارات ومحيطات كألمانيا ونيوزيلندا، وينظر لحروب وانفجارات الشرق الأوسط المتتالية كتعطيل لمجتمعات أغلبيتها منكوبة وفقيرة عن اللحاق بركب التقدم، وفيه تختزل الهند في المورد الأكبر عالميا للمهندسين المتخصصين في الإلكترونيات. وتقتصر الأخبار المتداولة على تغيرات المراكز القيادية في الشركات الكبرى، وحركة أسهمها صعودا وهبوطا، وأسماء الشركات الجديدة التي ينتظر نجاحها وإمكانات توسعها.

***

فقط على الهوامش، يدور شيء من الحديث عن جنون ترامب الذي يطرد كبار مسؤولي إدارته بتغريدات وفضائحه الجنسية وعن خطر القرصنة الروسية وضرورة مساعدة اللاجئين السوريين إنسانيا. وفي التحليل الأخير، صدق حدثي ولم أتمكن من الحوار سوى مع القليل من الحضور الذين استمعوا بسعة صدر إلى أسئلتي البدائية عن الذكاء الاصطناعي وتوظيف التطبيقات التكنولوجية للأغراض الطبية والحدود الأخلاقية الواردة على عمليات الاستنساخ والتخليق.

***

في غضون أيام قليلة، انتقلت بين تقلبات ومآسي القرن العشرين وبين تقدم وفرص وأرباح القرن الحادي والعشرين، بين الاقتراب ممن لم يغادروا أحداث وإبداعات القرن العشرين أوروبيا وأمريكيا وبين محاولة فهم عالم الشركات التكنولوجية الكبرى الذي لم يعد قاصرا على الغرب ولا تعنيه "أخبار اليوم" سوى في تداعياتها على الاستثمارات والأسهم. في غضون أيام قليلة، عرضتني جامعة ستانفورد لبقايا القرن الماضي وحقائق القرن الراهن. وأغلب الظن أن التناقضات الناجمة عن اصطدام بقايا الماضي مع حقائق الحاضر ستبقى مع مجتمعاتنا البشرية لفترة قادمة. 

 

عمرو حمزاوي أستاذ علوم سياسية، وباحث بجامعة ستانفورد. درس العلوم السياسية والدراسات التنموية في القاهرة، لاهاي، وبرلين، وحصل على درجة الدكتوراة في فلسفة العلوم السياسية من جامعة برلين في ألمانيا. بين عامي 2005 و2009 عمل كباحث أول لسياسات الشرق الأوسط في وقفية كارنيجي للسلام الدولي (واشنطن، الولايات المتحدة الأمريكية)، وشغل بين عامي 2009 و2010 منصب مدير الأبحاث في مركز الشرق الأوسط لوقفية كارنيجي ببيروت، لبنان. انضم إلى قسم السياسة العامة والإدارة في الجامعة الأميركية بالقاهرة في عام 2011 كأستاذ مساعد للسياسة العامة حيث ما زال يعمل إلى اليوم، كما أنه يعمل أيضا كأستاذ مساعد للعلوم السياسية في قسم العلوم السياسية، جامعة القاهرة. يكتب صحفيا وأكاديميا عن قضايا الديمقراطية في مصر والعالم العربي، ومن بينها ثنائيات الحرية-القمع ووضعية الحركات السياسية والمجتمع المدني وسياسات وتوجهات نظم الحكم.
التعليقات