«كتاب الصورة».. سينما ليست كالسينما! - محمود عبد الشكور - بوابة الشروق
الخميس 18 أبريل 2024 5:21 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

«كتاب الصورة».. سينما ليست كالسينما!

نشر فى : الخميس 22 نوفمبر 2018 - 10:05 م | آخر تحديث : الخميس 22 نوفمبر 2018 - 10:05 م

عُرض فيلم «كتاب الصورة»، أو«صورة وكلمة» لجان لوك جودار، والفائز بجائزة لجنة التحكيم الخاصة فى مهرجان كان 2018، فى بانوراما الفيلم الأوروبى، بدون تقديم، ودون أن يعرف الجمهور شيئا عنه أو أسلوبه. ولذلك اعتقد كثيرون أن المخرج «مجنون»، مع أنه من أكثر المخرجين الذين يبنون أفلامهم بطريقة عقلية غير عاطفية، وكثيرون ظنوا أن النسخة غير صالحة بسبب طريقة جودار فى إلغاء الصوت فجأة، هذه الأعمال كانت تستأهل تقديمًا قصيرًا.
أما الفيلم نفسه فهو مذهل بصريًّا وسمعيًّا: كولاج سينمائى؛ صوتًا وصورة، يتأمل فيه جودار عالم اليوم، وربما مسيرة القرن الماضى كله، اعتمادًا على إعادة تشكيل مواد فيلمية، وقصاصات مأخوذة من أفلام روائية، أو مقاطع فيديو.. وعلى شريط الصوت تعليقات جودار، واقتباسات من نصوص أدبية، وموسيقى وأغنيات، أعاد جودار بناءها، وتدخل أحيانًا بإعادة تلوينها، والإسراع أو الإبطاء فى حركتها.
هذا المزيج الفريد الذى يقطعه الصمت، أو إظلام الشاشة، يلخص فوضى الحياة الإنسانية، المسحوقة فى الحروب والمذابح، والتائهة بين كلمات لا تعنى شيئًا، بينما الصور تصدمنا بحقيقتنا البائسة، جودار يضع بهذا الكولاج (التجميع السمعى البصرى) فكرة الحضارة نفسها موضع الاختبار، ينظر إلى الغرب بوصفه «مزدوج الرؤية»، يضع القوانين، ولكنه لا يؤمن إلا بالقوة.
أما العالم العربى فهو غير مفهوم للغرب، والعرب لا يتكلمون عن أنفسهم، إنه يرى العالم العربى مجتمعًا تقليديًّا، انتظر الثورة طويلًا، لكن لم يبق من الفكرة سوى الدمار والانفجارات، يستعين جودار بنصوص رواية ألبير قصيرى «طموح فى الصحراء» التى تتخيل وجود ثورة فى بلد عربى صحراوى.
لا يمكن سرد فيلم جودار بالطريقة التقليدية أبدًا، لأنه تجربة لا بد أن تعيشها بالمشاهدة والتأمل، إنه يحقق فى السينما ما فعله «بريخت» فى المسرح، ولكن بأدوات السينما، وخصوصًا المونتاج (صوتا وصورة) الذى يُستخدم هنا لكى يمنع المشاهد من الاندماج، القطعات ليست سلسة مريحة، بل صادمة عَمْدًا.
لا يريدك أن تتأثر بمشاهد القتل أو التعذيب المروعة فى الفيلم، وبعضها حقيقى، وبعضها فى أفلام روائية شهيرة، ولكنه يريدك أن تتأمل لماذا يتكرر نفس الفعل فى عصور مختلفة، مع أن الإنسان قد تحضّر، أو يزعم ذلك.
إظلام الصورة فجأة، أو الصمت المفاجئ على شريط الصوت، هو هدنة أو مسافة بينك وبين الفيلم للتأمل والتفكير، إنه يضعك مباشرة أمام الصور، فهى أبلغ من الكلمات التى فشلت فى رأيه أن تكون لغة مفهومة، المهم أن يبنى جودار لوحته الكبيرة، التى هى أقرب ما تكون إلى جحيم دانتى، منها إلى «فردوسه المفقود».
يبدو لى أن «الفن» عند جودار أصدق أنباء من الكلمات، يمكن أن تلتقط عبر هذه «الجدارية/الكولاج» إشارات بصرية مكررة؛ مثل المقارنة بين اليد التى تتواصل مع الأخرى، والأيدى التى تقتل، بين حركة الجسد الممدد المنتشى من قبلة سينمائية، والجسد الممدد على الأرض بسبب ضربه بالرصاص.
هناك فصل كامل خصصه جودار لحركة القطارات، ذهابًا وإيابًا، ليست فى ذاتها، ولكن البشر ومسيرتهم ورحلاتهم، بكل ما تعنيه فكرة الرحلة من مستويات، وما تكشف عنه من فوضى وعبثية.
جودار فى الحقيقة مخرج لحوح جدًا، ولكنه يلحّ بصنعة فن، ومن ملامح هذا الإلحاح أن تنزل عناوين نهاية الفيلم، ثم يستكمل بعدها الصور والتعليقات، جودار هو الإصبع الذى يشير فى بداية الفيلم ونهايته، وكأنه يتوجه إلى كل مشاهد شخصيا ليشاركه التأمل والمناقشة، ولكى يتحمل كل إنسان مسئوليته تجاه ما حدث وما يحدث للإنسانية.
إنه ما زال ثوريًّا حالمًا بإنسان أفضل، وما زال فنانًا بارعًا، تتحول أى مادة مصورة أو مسموعة على يديه إلى عمل فنى يحمل بصمته وتوقيعه، وما زال محبًا للإنسانية، واسع الأفق ثقافيًّا ومعرفيًّا، ولذلك جمع بين جرائم أمريكا فى فيتنام، وجرائم داعش فى كل مكان، بين لحظات حب فى «باب الحديد»، ومشاهد تعذيب فى فيلم «سالو» لبازولينى.
لعل الفيلم، فى أحد مستوياته، تحية لقدرة الإنسان على التعبير بالصورة؛ ساكنة ومتحركة، وتحية لصراخه الصوتى والفنى، الأكثر بلاغة من هشاشة الكلمات.

محمود عبد الشكور كاتب وناقد سينمائي وأدبي مصري
التعليقات