بين الحلم والكابوس.. سلام على دمشق - عبد الله السناوي - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 10:44 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

بين الحلم والكابوس.. سلام على دمشق

نشر فى : الخميس 22 فبراير 2018 - 9:45 ص | آخر تحديث : الخميس 22 فبراير 2018 - 9:57 ص

-بعد ستين سنة لا موضع الآن لحديث عن أية وحدة عربية وأقصى ما نتطلع إليه تجنب سيناريوهات التقسيم الماثلة فى سوريا وبلدان أخرى

 

-بين حلم الوحدة وكابوس التقسيم قصة طويلة وأليمة أهدرت فيها كل القضايا وارتكبت كل الخطايا واستبيحت كل المحرمات

 

-بحقائق الجغرافيا السياسية إذا ما سقطت سوريا تتقوض مصر ويخسر العالم العربى كله أية مناعة تحول دون تفكيك دوله والتلاعب بمصائره

 

-لا عالم عربى بلا مصر التى تمثل ثلث كتلته السكانية.. ولا نهضة عربية بلا سوريا مهما حسنت النوايا والتوجهات

 

-المصير السورى هو شأن كل بلد عربى وكل مواطن عربى يدرك حقائق ما حوله

 

-مصر بالثقافة والهوية والجغرافيا والتاريخ مشدودة إلى محيطها العربى

 

-عبدالناصر بعد الانفصال: ليس مهما أن تبقى الوحدة.. المهم أن تبقى سوريا

 

-حسب تسجيلات «العملية عصفور» فإن قادة الدولة العبرية توصلوا إلى استنتاج أن إسرائيل لن تكون آمنة ما دام عبدالناصر على قيد الحياة

 

كان ذلك يوما فريدا فى التاريخ العربى.
المشاعر تدفقت كطوفان والأحلام لامست السماء فى بناء دولة قوية وموحدة «تصون ولا تهدد تحمى ولا تبدد تصادق من يصادقها وتعادى من يعاديها».


إنه يوم (22) فبراير (1958)، الذى أعلنت فيه الوحدة المصرية السورية، أول وآخر تجربة وحدوية عربية فى العصر الحديث.


بعد ستين سنة لا موضع الآن لحديث عن أية وحدة عربية وأقصى ما نتطلع إليه تجنب سيناريوهات التقسيم الماثلة فى سوريا وبلدان أخرى.


بين حلم الوحدة وكابوس التقسيم قصة طويلة وأليمة أهدرت فيها كل القضايا وارتكبت كل الخطايا واستبيحت كل المحرمات.


يقال عادة: «لا حرب بلا مصر ولا سلام بلا سوريا».


وقد ثبتت صحته فى مسار وتعرجات الصراع العربى ـ الإسرائيلى.


بحقائق الجغرافيا السياسية إذا ما سقطت سوريا تتقوض مصر ويخسر العالم العربى كله أية مناعة تحول دون تفكيك دوله والتلاعب بمصائره.


هذه واحدة من بديهيات نظرية الأمن القومى.


بعد حرب السويس عام (1956) وفشل إخضاع مصر وضعت خطة أطلق عليها «استراجل» ـ وتعنى البعثرة.


كانت تقضى بأن إسقاط سوريا يفضى مباشرة إلى عزل مصر وبعثرة العالم العربى.


وقد كشف عنها ـ ربما لأول مرة ـ الأستاذ «محمد حسنين هيكل» عام (2007) فى حديث تليفزيونى.


كانت سوريا مهددة فى صميم وحدتها الداخلية ومكشوفة لضغوط إسرائيلية وتدخلات تركية، ومشروعات انقلابات، عسكرية أو غزو من الخارج يقوده رئيس الوزراء العراقى «نورى السعيد» الرجل الذى ارتبط أكثر من غيره بسياسة الأحلاف العسكرية فى المنطقة.


بحكم موقعها الجغرافى لم يكن ممكنا لسوريا أن تنغلق على نفسها تحت أى ادعاء، أو أن يكون لها مستقبل خارج عالمها العربى بأية ذريعة.


ولم تكن مصادفة أن سوريا ـ بالذات ـ هى البلد التى احتضنت الفكرة العروبية فى مواجهة «التتريك» ونشأت فيها ـ قبل غيرها ـ الحركات ذات التوجه القومى العربى.


كما لم تكن بلاغة تعبير أن توصف بـ«قلب العروبة النابض».


بحكم موضعها فى المشرق العربى فهى عاصمته الطبيعية.


وبحكم اتصال الأمن القومى المصرى بها فهى توءمته.


وبحكم حدودها مع الدولة العبرية فهى طرف فى صراع وجودى.


وبحكم امتداد ساحلها على البحر المتوسط فهى مركز استراتيجى.


وبحكم اتصالها بشبه الجزيرة العربية حيث موارد النفط فهى تحت بصر المصالح الغربية.


هكذا أكدت الحقائق نفسها، لا عالم عربى بلا مصر، التى تمثل ثلث كتلته السكانية، ولا نهضة عربية بلا سوريا ـ مهما حسنت النوايا والتوجهات.


وهكذا فإن المصير السورى هو شأن كل بلد عربى وكل مواطن عربى يدرك حقائق ما حوله.


(1)


«انتصرت إرادة العرب.. لا فراغ فى الشرق الأوسط، ولا مناطق نفوذ».


هكذا تحدث «عبدالناصر».


السياق التاريخى ضرورى لفهم ما جرى من تدافع للحوادث وصلت ذروتها بإعلان الوحدة المصرية السورية.


كان يخوض حربا مفتوحة ضد سياسات ملء الفراغ والأحلاف العسكرية بعد تقويض مكانة امبراطوريتين سابقتين هما البريطانية والفرنسية بأثر النتائج السياسية لحرب السويس.


وكان العصر الأمريكى قد بدأ يطل على العالم العربى فى ظروف حرب باردة أعقبت الحرب العالمية الثانية.


كانت الوحدة المصرية السورية خطوة متقدمة أكدت قدرة العالم العربى على ملء الفراغ بنفسه دون حاجة إلى أحلاف تخضع لحسابات استراتيجية ضد مصالحه ومستقبله.


كما كانت تطويرا لنتائج حرب السويس، التى ألهمت حركات التحرر الوطنى فى العالم الثالث حيث تمكنت دولة مستقلة حديثا من أن تتحدى الامبراطوريتين البريطانية والفرنسية ومعهما إسرائيل، وأن تصمد أمام العدوان عليها، وأن تغير موازين الحسابات فى المنطقة ـ كأن فوران غضب على الإرث الاستعمارى اندلع فيها.


فى ذلك اليوم الفريد ـ قبل ستين سنة ـ تبدت حالة سياسية ووجدانية قد يساعد التوقف عندها على تلمس بعض ما يجرى الآن تحت السطح العربى الساكن، أو المشتعل بالنار، من خلجات نفوس وأحلام محبطة.


إنها أمة واحدة كاشفت نفسها فى لحظة أمل أنها تستطيع أن تصنع التاريخ وتبنى دولة منيعة قادرة على مواجهة التحديات والمخاطر وأن تأخذ أحلامها إلى أرض الواقع.


بعد إعلان الوحدة كانت دمشق تنتظر وفدا مصريا رفيعا قادما إليها.


مالت توقعات رجل سوريا القوى ـ فى ذلك الوقت ـ «عبدالحميد السراج» أن الوفد سوف يترأسه المشير «عبدالحكيم عامر».


عندما هبطت الطائرة المصرية فى مطار دمشق كانت المفاجأة صاعقة وكاد «السراج» أن يغمى عليه، فالذى هبط منها هو «جمال عبدالناصر» نفسه.


صرخ المسئولون السوريون من هول الحدث: «يا خبر ـ دمشق لن تنام الليلة» ـ حسبما نشرت صحيفة «الأهرام» فى اليوم التالى.


كانت تلك أول مرة تطأ أقدامه العاصمة السورية ـ وهو رئيسها وأملها فى بناء دولة عربية كبرى فى المنطقة.


كرجل أمن أدرك «السراج» أنه فى مشكلة مستعصية، فالمشاعر جياشة، ولم تكن هناك احتياطات لازمة تستبق الزيارة وتؤمنها من أى اعتداءات على الرئيس، والتربص بحياته على أشده.


بدأ الزحف العظيم من المدن والقرى السورية لترى بالعين رئيس الجمهورية العربية المتحدة.


تدفقت على دمشق كتل شعبية أخرى عبر الحدود العربية المجاورة ـ خاصة من لبنان.


بدا كل شىء عفويا ومحملا بأحلام كبرى فى مستقبل جديد.


حملت الحشود المتدافعة سيارة «عبدالناصر» على الاكتاف فى مشهد تراجيدى تاريخى يكاد لا يصدق.


سهرت حتى الفجر بالمشاعل أمام قصر الضيافة.


من وقت لآخر ينادونه بلا كلل: «طل علينا يا جمال».


فى فكرهم ووجدانهم تأميم قناة السويس وإحباط العدوان على مصر ومعارك التحرر الوطنى ومحاربة الأحلاف الاستعمارية وتنويع مصادر السلاح والانحياز إلى الحق الفلسطينى ومبادئ باندونج.


شىء آخر عميق ومتوارث دعاهم إلى استدعاء الأمل بالهمة.


المعانى أهم من الرجال، والقضايا الكبرى تلهم الناس العاديين أنهم يمكن أن يصنعوا تاريخهم بأنفسهم وأن يوقفوا أى امتداد جديد لقرون من الإذلال والتهميش.


بذات قدر الرهان عليه اقترب «عبدالناصر» من دخائل المجتمع السورى لتدارك أى أخطار محتملة على الوحدة، وقد بدأت تظهر على السطح السياسى.


كانت رحلته الأخيرة إلى دمشق، قبل الانفصال الذى قوضها، مثيرة فى وقائعها وكاشفة فى دلالاتها ـ كما رواها الأستاذ «أحمد بهاء الدين».


«كانت حقا رحلة شاقة، كان استقبال الشعب لجمال عبدالناصر كالعادة اسطوريا، ذهب إلى مناطق قال لنا أهلها إنه لم يسبق أن زارها وكيل وزارة من دمشق العاصمة، وكانت التسهيلات فى بعض تلك المدن التى لم يدخلها مسئول واحد معدومة تماما، لم تكن هناك ببساطة أماكن أمام رئيس الجمهورية العربية المتحدة وصحبة من الوزراء والصحفيين المصريين والسوريين لا للمبيت ولا للمأكل ولا أى شىء على الإطلاق».


«فى دير الزور ـ مثلا ـ كان هناك بالمصادفة مبنى جديد لم يستعمل بعد لمكتب بريد وبتنا جميعا فيه، بات جمال عبدالناصر فى غرفة بالدور الثانى من المبنى لعلها حجرة مكتب مدير البريد.. وفى الدور الأرضى الذى يفصله عن الشارع حاجز زجاجى فقط غطوا الزجاج بالبطاطين ورصوا أسرة من القوات المسلحة، وكان الناس فى مثل هذه الظروف يأتون متبرعين بالسراير والمراتب والأغطية التى سيستعملها جمال عبدالناصر وصحبته».


وقد شملت زيارته الأخيرة الحسكة وحلب ومناطق نائية.


كانت المشاعر تكفيه لتحمل مشقة التجوال فيها بلا خدمات أو أية وسائل للراحة.


أهمية شهادة الأستاذ «بهاء» تتجاوز حجمه وأثره فى تاريخ الصحافة المصرية إلى أفكاره واعتقاداته وخياراته السياسية.


فى شبابه الباكر تأثر بأفكار «البعث» وارتبط بصلة حوار مع مؤسسه «ميشيل عفلق» كلما مر على القاهرة.


وكان هناك شبان آخران أخذوا التوجه نفسه مثل الدكتور «جلال أمين» المفكر الاقتصادى المعروف والناشر الدكتور «على مختار» والسفير «أمين يسرى»، لكنهم أخذوا مسارا آخر مع حلم الوحدة وصدمة الانفصال، الذى تورطت فيه قيادات كبيرة مثل «صلاح البيطار» ثانى أهم شخصية فى تأسيس «البعث».


ماجت سوريا بالغضب على الانفصاليين حتى أزاحت وصمته من تاريخها وعرضت الوحدة مرة أخرى على «جمال عبدالناصر» عام (1963) لكنه طلب مزيدًا من الدراسة حتى لا يتكرر ما جرى.


عندما تشاهد على شرائط مسجلة مئات آلاف البشر تتدافع إليه فى ذلك اليوم قبل ستين سنة، فلا بد أن تنصت لصوت التاريخ، وتدرك بالعمق أنها كانت تهتف للمعنى قبل الشخص، وأن هذه لم تكن «انفعالات عواطف» بل حقائق تاريخ يجسدها رجال وأحلام سجلتها أغانٍ بأصوات «أم كلثوم» و«محمد عبدالوهاب» و«عبدالحليم حافظ» و«نجاح سلام» و«محمد قنديل» وآخرين.


لا يضارع ذلك اليوم ـ (22) فبراير ـ من حيث المعانى والمشاعر والصور سوى زيارته للجزائر بعد تحريرها، وكان الانفصال قد وقع.


حملت سيارته حتى كادت أن تتحطم تحت وطأة التزاحم والشرائط المسجلة متاحة لمن يريد أن يتأمل كيف حلمنا ذات يوم قبل أن نسقط فى بئر بلا قرار.


(2)


فى (28) سبتمبر (1961) جرى فصم الوحدة المصرية السورية بانقلاب عسكرى رعته الاستخبارات الأمريكية ومولته المملكة العربية السعودية وشاركت فيه الأردن وآزرته تركيا وهللت له إسرائيل.


سأل «عبدالناصر» الملك «سعود بن عبدالعزيز»، بعد أن جاء للقاهرة لاجئا سياسيا عقب إطاحته: «هل صحيح أنك دفعت 7 ملايين جنيه إسترلينى حتى يتم الانفصال؟».


أجابه: «طال عمرك.. 12 مليون جنيه إسترلينى».
رغم الخطط والمؤامرات على الوحدة المصرية السورية، وكلها ثابتة فى وثائق وشهادات واعترافات، إلا أنها سقطت من داخلها قبل أى فعل خارجى، وتسببت أخطاء جوهرية بصميم التجربة على تسهيل الانقلاب.


حسب شهادة العقيد «جاسم علوان» فإن «هانى الهندى الوزير فى دولة الوحدة كتب مذكرة تفصيلية للمشير عبدالحكيم عامر كشفت عن انقلاب قريب والأسماء المتورطة فيه، وكان يتصدرهم مدير مكتبه عبدالكريم النحلاوى».


واجه المشير مدير مكتبه بما ورد فى المذكرة فقال له «النحلاوى»: «إذا أردتم أن أنفذ شيئا سأفعله حتى لو أمرتنى بإطلاق الرصاص على نفسى».


لم تمض أيام حتى وقع الانقلاب، وكان مهندسه «النحلاوى»، الذى استخدم موقعه فى حركة تنقلات داخل الجيش سهلت مهمة الانفصاليين.


فيما بعد هرب إلى الولايات المتحدة تحت رعاية استخباراتها، خشية أن يقع فى يد الوحدويين.


بصورة أو أخرى استخدم «النحلاوى» الصراع المحتدم بين نائبى رئيس الجمهورية العربية المتحدة «عبدالحكيم عامر» و«عبدالحميد السراج».


كان «السراج» يمسك بمقاليد الأمن ويعرف دخائل الجيش وقد سهلت استقالته مهمة الانفصاليين.


فى تلك الأجواء برز رجلان على مقدمة المسرح السورى الملتهب هما «السراج» نفسه والعقيد «جاسم علوان» سكرتير المجلس العسكرى الذى مهد للوحدة والذى حاول إعادتها بانقلاب مضاد.


بتقدير الأستاذ «هيكل» فإن الأول، «قد تختلف مع وسائله لكنك لا تشك فى نياته»، وقد حمى سوريا من مؤامرات عديدة قبل الوحدة وبعدها.


والثانى، «فى وقت من الأوقات كان مستقبل الشرق الأوسط فى يد هذا الضابط الشاب».


بعد أن انقضت عقود طويلة على الوحدة والانفصال حاورتهما، ولكل حوار قصة لها معنى.


التقيت «السراج» ـ لأول مرة ـ فى مكتبه بقلب القاهرة عندما كان يترأس الشركة القابضة للتأمين فى حضور شخصيات لبنانية لعبت أدوارا تحت إشراف الزعيم اللبنانى «كمال جنبلاط» ومتابعة من القاهرة فى تهريبه من سجن «المزة» الذى أودع فيه معتقلا بعد الانفصال.


بصورة مطلقة امتنع عن الإدلاء بأية شهادة حتى لا يئول أى حرف فى الإساءة إلى الزعيم الراحل.. وقد بذلت صحف عديدة تصدر بالخارج عروضا سخية لاستخدامه فى الحملة عليه والتشهير بالوحدة.


على الجانب الآخر تحدث العقيد «علوان» وأفاض عن الوحدة وتجربتها وأسباب انفصالها، مؤمنا أننا كنا دولة عظمى وأن الوحدة كانت محتمة والانفصال جريمة تاريخية لا تغتفر.


وقد تدخل «عبدالناصر» بكل ثقله للإفراج عنه وعاش فى القاهرة حتى رحل.


من مفارقات التواريخ أن «عبدالناصر» نفسه رحل فى (28) سبتمبر (1970)، وهو نفس يوم الانفصال قبل تسع سنوات.


فيما بعد قال «عبدالناصر» إن أول دبابة تحركت للانقلاب على الوحدة كانت الرديف الحقيقى لأول دبابة إسرائيلية دخلت سيناء فى حرب يونيو (1967).


على مدى عقود طويلة نشرت آلاف الدراسات عن الوحدة وأسباب الانفصال.


باليقين فإن «عبدالناصر» يتحمل جانبا من المسئولية، لم يكن «عامر» مؤهلا لإدارة دولة الوحدة من دمشق والانقلاب حدث من داخل مكتبه.


كما أن عدم تغييره بعد الانفصال كان خطأ جسيما أفضى ـ ضمن أسباب أخرى ـ إلى الهزيمة العسكرية فى يونيو بالحجم الذى حدثت به.


رغم ذلك تتبدى الوحدة فى الذاكرة العامة كحلم يستعصى على محاولات الإجهاز عليه.


أجهزوا على تجربة «عبدالناصر» واصطادوها من ثغراتها، لكن للأحلام مناعة أكبر وعمرا أطول.


قالوا إن الوحدة «وهم ناصرى»، وأن مصر فرعونية، أو شرق أوسطية أو أى شىء آخر غير أن تكون عربية، لكن الحقائق تغلب باستمرار.


فـ«مصر» ـ بالثقافة والهوية والجغرافيا والتاريخ ـ مشدودة إلى محيطها العربى، المصائر مشتركة، والقضايا واحدة وعندما تنكرت مصر لأدوارها جرى ما جرى لها من تهميش وتراجع فى المكانة.


عندما نقارن الصور التى كانت بالصور التى تحاصرنا الآن نجد أنفسنا فى سرير واحد مع العدو طائعين خانعين، كأننا نحتفل فى يوم واحد ـ (22) فبراير ـ بالحلم على سرير الكوابيس.


(3)


يستلفت الانتباه فى أداء «عبدالناصر» لحظة الانفصال مدى إدراكه للحقائق فى سوريا وخشيته على مستقبلها.


بعد الانفصال بأسبوع قال فى خطاب بثته الإذاعة المصرية، كأنه يقرأ طالع أيام لم تأت بعد: «إن الوحدة الوطنية فى الوطن السورى تحتل المكانة الأولى.. إن قوة سوريا قوة للأمة العربية وعزة سوريا عزة للمستقبل العربى والوحدة الوطنية فى سوريا دعامة للوحدة العربية وأسبابها الحقيقية».


«لست أريد أن أقيم حصارا سياسيا أو دبلوماسيا من حول سوريا، فإن الشعب السورى فى النهاية سوف يكون هو الذى يعانى من هذا الحصار القاسى».


وكان مما قال فى ظروف الانفصال: «ليس مهما أن تبقى الوحدة، المهم أن تبقى سوريا».


فى لحظة الانكسار تبدت سلامة الرؤية.


أوقف التدخل العسكرى المصرى بعد أن أرسلت قوات إلى اللاذقية خشية إراقة الدماء.


وكان ذلك إجراء سليما، رغم صعوبته، فلا وحدة تتأسس على إراقة دماء.


أثبت بموقفه فى أزمة الانفصال مدى اعتزازه بالشعب السورى، الذى لم يحب شعبا آخر أكثر منه ولا أحب مدينة أكثر من دمشق.


كان للانفصال عواقب استراتيجية أوصلتنا إلى الكوابيس المقيمة.


تراجع زخم حركة التحرر الوطنى فى العالم العربى وقوة حضور المشروع القومى.


رغم اتصال معارك «عبدالناصر» من مساعدة الثورة الجزائرية على نيل الاستقلال إلى التدخل فى اليمن لحماية نظامه الجمهورى والسيطرة على استراتيجية البحر الأحمر ونقل البلد كله من القرون الوسطى إلى العصور الحديثة إلى تحرير القارة الإفريقية ـ أكبر عملية تحرير فى التاريخ الإنسانى إلا أن جرح الانفصال بدا غائرا فى استراتيجيته التحررية.


استخدمت حرب اليمن واتساع الدور العسكرى المصرى فيها إلى ما جرى فى (5) يونيو من هزيمة باهظة.


حسب تسجيلات «العملية عصفور»، حيث زرعت فى السفارة الأمريكية بالقاهرة ميكروفونات تنقل ما يجرى من حوارات فى الغرف المغلقة، فإن قادة الدولة العبرية توصلوا إلى استنتاج أن إسرائيل لن تكون آمنة ما دام «عبدالناصر على قيد الحياة»، وأنه لابد من الوصول إليه بالمرض أو السم.


ليس مؤكدا أنهم قد وصلوا إليه غير أن كل ما جرى بعده يثبت محورية مشروعه فى التحرر الوطنى والوحدة العربية ووحدة المصير الإنسانى.


جرى الانقلاب على توجهاته الأساسية والتشهير به على أوسع نطاق.


كما جرى التوظيف السياسى لحرب أكتوبر عكس ما طلبه الذين عبروا قناة السويس بقوة السلاح حتى وصلنا إلى معاهدة لا تليق بأى منتصرين منحت إسرائيل ما لم تستطع أن تحصده فى ميادين القتال.


أخذ النظام الإقليمى العربى يتقوض من مرحلة إلى أخرى، بدلا من التطلع إلى وحدة عربية شاملة أصبح بقاء الجامعة العربية على قيد الحياة، رغم ضعفها الفادح، مسألة أمل.


عندما تفاقمت الأزمة السورية وأفلتت بالسلاح من أى زمام واتسع نطاق التدخلات الأجنبية بدا أمام الأستاذ «هيكل» أن سوريا ومصيرها، لا «بشار الأسد» ومستقبل نظامه، صلب الموقف.


كان متأثرا فى موقفه بنظرته إلى قضية الأمن القومى، وبما عاين من حوادث أثناء الوحدة، وبما قرأ من وثائق لم تكن معروفة أثناء التجربة خاصة الخطة «استراجل».


فى بدايات تفاقم الأزمة السورية حاور اثنين من أقرب أصدقائه، هما المبعوث الأممى إلى سوريا السفير «الأخضر الإبراهيمى» وزير الخارجية الجزائرى الأسبق، والدكتور «نبيل العربى» أمين عام الجامعة العربية فى ذلك الوقت.


سجل أسباب اعتراضه، وقد كنت متابعا، على تدويل الأزمة وإحالتها من الجامعة العربية إلى مجلس الأمن، وعلى تجميد السفارة السورية بالقاهرة على عهد الرئيس الأسبق «محمد مرسى» وإخلاء مقعدها فى الجامعة العربية.


كان تقديره أن ذلك سوف يفضى إلى رفع درجة التدخلات الأجنبية ويضع المصير السورى كدولة موحدة فى مهب النيران دون سعى حقيقى لإخمادها.


هكذا تدهورت الأحوال على الأرض إلى حروب إقليمية بالوكالة، ثم حروب دولية على النفوذ وتوحش ظاهرة الجماعات الإرهابية مثل «داعش» وجبهة «النصرة».


بأى نظرة على الخريطة السورية الآن لا يمكن استبعاد سيناريو التقسيم.


وزير الخارجية الروسى «سيرجى لافروف» وجه اتهاما صريحا ـ قبل أيام ـ من فوق منصة مؤتمر «ميونيخ» للإدارة الأمريكية بالسعى لتقسيم سوريا.


وبأى نظرة أخرى على الخريطة فإنه يصعب الحديث عن أى أمل عربى فى أى مستقبل دون أن تكون دمشق فى قلبه.


هكذا كانت خبرة الوحدة وأحلامها التى حلقت والانفصال وما تبعه من انكسارات حتى وصلنا إلى الكوابيس.


سلام على دمشق.