ــ1ــ
الهجرة النبوية المشهورة هجرة «المحرم» من مكة إلى المدينة، وهى الحلقة الكبرى فى سلسلة من السلوكيات تبدأ بـ: هجرة الأذن ابتعادًا عن مساوئ الألفاظ، ثم هجرة اللسان بعيدًا عن نطق الألفاظ النابية (السيئة)، ثم ارتقاء اللسان لهجرة أخرى هى التفاضل بين الألفاظ الحسنة واختيار الأنسب لكل ظرف كما عبر الحكماء فقالوا: «لكل مقام مقال»، ثم هجرة ضبط شهوة الكلام وحصار اللسان بين خيارين لا ثالث لهما كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت». فهذه هجرة عظيمة لا تكلف الإنسان انتقالا ولا رحيلا عن الزمان والمكان. وهى هجرة عظيمة الأثر فى حياة المهاجر وحياة الآخرين حيث يرون ويسمعون ويتعلمون. ويكفيك تحريض شرعى على فعل هذه الهجرة والتفاعل معها قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «.. وهل يكب الناس على مناخرهم إلا حصاد ألسنتهم».

ــ2ــ
ثم تأت الحلقة الثانية فى حلقات الهجرة وهى مرحلة «انتقاء الأصدقاء».. نعم، فالإنسان بحكم حياته يخالط ويقابل ويصاحب (يجاور ويقترب) كثيرا من الناس على اختلاف أطيافهم وتنوع سلوكياتهم وبحكم حركة الحياة يضطر الإنسان لمصاحبة (زملاء العمل) ورفاق الطريق وأطراف المعاملات وليس لنا أن نفرض على غيرنا أن يتغير، بل علينا أن نتحمل.. ولكن.. هل يتورط الإنسان فى «صداقة» مع ذوى السلوك السيئ؟!!.. فالصداقة اختيار وتدقيق وحتى يحتفظ الإنسان بمحاسن الأخلاق عليه أن يدقق الاختيار للأصدقاء فالأصدقاء هم البيئة التى ينتقيها الإنان لنفسه. فلا يخدعك ألفاظ «خفة الدم»، «قوى»، «أسطورة»، فإذا لم يكن الشخص حسن السلوك لين الجانب عفيف اللسان فلا تصادق ولا تورط نفسك فى بيئة تجنى عليك.

ــ3ــ
وحلقة تالية من حلقات الهجرة وهى هجرة مواقف الخطأ وما أكثر «مواقف الخطأ» التى يتورط الإنسان فيها مثل شلل البطالة المقنعة مثل هؤلاء الذين لا يعلمون وهؤلاء الذين لا يحرصون على إنتاج وهؤلاء الذين يتساقطون فى ملتقيات جامعة غير مانعة.. فليحذر العاقل من تلك المواطن وأشباهها حرصا على لسانه وقلبه ومشاعره وحماية للنفس أن تفقد رشدها ووقارها.. ومما يساعدك على هذه الهجرة التمييز بين الترفيه والضياع، وبين اللهو والهلاك.. فاحرص دائما أن لا تنزلق إلى مواطن التزاحم والعشوائية ومواطن الجرأة والاندفاع.. وتلك هجرة قوامها العقل فاحرص عليها تكن آمنا مع الفائزين..

ــ4ــ
فإذا لم يكن بد، فلا مانع من الهجرة الكبرى.. هجرة المكان بما فيه، وتلك الهجرة تشمل نوعين: هجرة موقوته وهجرة دائمة.. فالهجرة الموقوتة تلك الفترات التى يستطيع الإنسان فيها اعتزال المحيطين به سواء بالابتعاد والاعتكاف أو الانتقال المؤقت لموطن آخر مثل انتقال صحابة الرسول من مكة إلى الحبشة، حيث قال الرسول صلى الله عليه وسلم للمستضعفين: «اخرجوا إلى أرض الحبشة فإن فيها ملك لا يظلم أحد عنده».. تلك الهجرة بحثا عن العدل لا غير ويكفى الإنسان مناخا عادلا يتحرك فيه بحرية وينتفع بعائد عمله، ويختار رفاقه وأصدقائه كما يحب ولا يتعرض لضغوط المستبدين والمتعالين بغير مبرر وغير حق.