للديمقراطية أحيانا الكلمة الأخيرة - داليا سعودي - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 1:07 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

للديمقراطية أحيانا الكلمة الأخيرة

نشر فى : الثلاثاء 20 نوفمبر 2018 - 12:05 ص | آخر تحديث : الثلاثاء 20 نوفمبر 2018 - 12:05 ص

لم تكن المرة الأولى ولن تكون الأخيرة التى يصطدم فيها الرئيس الأمريكى مع الصحفيين. لكن انتصار السلطة القضائية لحرية الصحافة فى قضية إعادة مراسل شبكة CNN إلى عمله فى البيت الأبيض بعد طرده كان أشبه بنقطة نظام فى لعبة فرد العضلات واختبار القوة بين الرئيس ومؤسسة الصحافة. اللعبة مارسها كل قاطن بالبيت الأبيض، حتى باراك أوباما، العالم بفنون مخاطبة حملة الأقلام والكاميرات، الذى استعان يوما بممثل صامت فى عشاء البيت الأبيض الإعلامى، ليقول للصحفيين إنه غاضبٌ من أداء بعضهم المتحيز ضد السود. لكن اللعبةَ تتحول مع دونالد ترامب إلى صدام مخيف الأبعاد، عالمى الأثر، يتخطى حدود بلاده، ويأتى فيه حكم المحكمة الفيدرالية كناقوس خطر يدافع عن مصير عُمَال الحقيقة فى معركة الديمقراطية الأبدية.
***
متوترٌ وعدائى، بدرجة ربما بدت أكبر من توتره المعتاد وعدائيته الطبيعية. هكذا بدا دونالد ترامب فى المؤتمر الصحفى الذى تلا إعلان نتائج الانتخابات النصفية وأفضت إلى استحواذ الديمقراطيين على مقاعد الكونجرس. ورغم افتعاله الابتهاج بما وصفه بأنه «نصرٌ عظيم» أتت به الصناديق للجمهوريين فى مجلس الشيوخ، فقد كان توتره ساطعا للعيان، لا تترجمه سرعة اشتعال غضبه الشفهى فحسب وإنما شف عنه أيضا قراره المُبيت بإقالة المدعى العام «چيف سيشنز»، الذى عُرف بموافقته للرئيس فى مجمل القضايا فيما عدا قضية التحقيق الذى يقوده المحامى «روبرت مولر»، أطول من شغل فى السابق منصب مدير مكتب التحقيقات الفيدرالية FBI، والقادم بهذه الخبرة المحنكة للنظر فى اتهامات التدخل الروسى ــ وربما أطراف أجنبية أخرى ــ فى انتخابات 2016 لصالح دونالد ترامب، المتهم ضمنا باحتمالات عرقلة العدالة.
متوترٌ إذن وعدائى كأقبح ما تكون عدائيته المشهودة، هكذا بدا دونالد ترامب وهو يستقبل سؤال «چيم أكوستا» كبير مراسلى CNN لدى البيت الأبيض، بشأن «غزو المهاجرين» المزعوم لحدود أمريكا. ولكم أن تتخيلوا أثر سؤال المراسل المنحدر من أصول كوبية، المعروف بأسئلته المباشرة المدببة، فى نفس رئيس كارهٍ للصحافة أصلا ومحتقرٍ لمواطنيه ممن لا تجرى فى عروقهم دماء العنصر الأبيض، فى لحظة تتنازع رأسه كل المخاوف الناجمة عن احتلال الديمقراطيين مقاعد الكونجرس واقتراب الساعة التى يحين فيها تصفية الكثير من الحسابات.
يُذكر لأكوستا سؤالا فى زمن آخر، وجهه أثناء الزيارة التاريخية التى قام بها أوباما لكوبا، وطالب فيه الرئيسَ راؤول كاسترو بالإفصاح عن مصير معتقلى الرأى فى سجونه. سؤالٌ أذيع على الهواء على التلفزيون الكوبى، وعلى تلفزيونات العالم التى غطت الحدث. لا يحب أمثال كاسترو تلك الأسئلة، لكن الرئيس أوباما لم يشحن المراسل المجترئ إلى بلاده على أول طائرة، ولم يطرده من البيت الأبيض لاحقا حين واجهه أكوستا بوابل من الأسئلة الموجعة حول ضعف القيادة العسكرية الأمريكية فى مواجهة مقاتلى داعش.
كلا. لم يطرده أوباما، ولم يسحب ترخيصه، ولم يرد على الأسئلة الموضوعية بهجوم شخصى مضاد يهين فيه المراسل ويسبه مثلما فعل معه ترامب على الملأ. كلا. لم يكن ذلك مسلك أوباما. فقد اجتهد ساعتها فى صياغة رد قائم على المحاججة والإقناع استنادا إلى رؤيته الخاصة للأوضاع، واحتراما لصاحب السؤال الذى يؤدى وظيفته أيا كانت درجة اتفاقه أو اختلافه معه. ونحن قد نتفق أو نختلف مع أوباما، لكن يُذكر له ذلك الوعى بدور الصحافة وتلك المقدرة على الثبات الفكرى فى مواجهة أسئلتها. فلما كان ترامب يفتقر إلى ذلك الوعى وتلك المقدرة، فلقد كان منه ومن إدارته ما كان. فأهين المراسل، وسُحب ترخيصه، واتُهم بـ«ملامسة الفتاة» المتدربة التى هجمت عليه لتنتزع منه الميكروفون. بل نشرت المتحدثة باسم البيت الأبيض مقطعا مصورا مفبركا لإمساك المراسل بـ«الجرم المشهود».
فأى وعى! وأية محاججة؟
***
لكن سرعان ما تأخذ القصة منحى مصححا للرداءة. فنحن هنا لسنا فى جمهورية موز بل فى دولة يحكمها القانون بقبضة غير متهاونة. إذ ترفع شبكة CNN دعوى ضد البيت الأبيض، لاستعادة تصريح المراسل، تؤيدها فيها اثنتا عشرة مؤسسة إعلامية كبرى، بما فيها FOX News المعروفة بموالاتها القوية للرئيس ترامب. بل إن المذكرة التى كتبتها تلك الأخيرة قد اتُخذت بين أهم أوراق الدفاع لاستصدار حكم يعيد إلى «چيم أكوستا» حقه المستلب تعسفا فى ممارسة عمله داخل قاعة الإعلام فى البيت الأبيض. فقد أدرك الجميع أن المعركة الحقيقية تهدف إلى الحفاظ على دعائم الديمقراطية، عبر تفعيل التعديل الدستورى الأول، الذى يكفل لحرية الصحافة مكانة مقدسة، ويحمى الحق فى التعبير والمساءلة والمحاسبة. وهو الحق الذى صنع مجد الولايات المتحدة وحمى مؤسساتها. قالها سيمور هيرش أسطورة الصحافة الاستقصائية صاحب التحقيقات التى كشفت مخازى السياسة الأمريكية فى ڤيتنام وفى أبوغريب: «لا حاجة بى أن تخبرونى عن روعة أمريكا وعن إمكاناتها. وحدها أمريكا التى يمكن للصحفى المغمور فيها أن يتحدى الرئيس الحاكم بحقائق ثابتة، فلا يُؤذَى أو يُطرد بل يُكرم وتُمنح له الجوائز فى اليوم التالى».
لابد أن ذلك الوعى بإرث أمريكا الديمقراطى هو الذى حمل مؤسستى الصحافة والقضاء على تأييد حق الصحفى فى العودة إلى عمله. لكنه وعى لا يخلو من الإحساس بالخطر الذى بات يمثله دونالد ترامب فى تهديد السلم الداخلى والخارجى معا. ففى الداخل، ثمة رئيس يطارد الصحفيين والمبدعين بهِمة مكارثية، ويهين الصحفيين السود ومن بدت على ألسنتهم لكنة غريبة. رئيسٌ يقتبس من مأثورات الحقبة الستالينية نعت المراسلين بـ«أعداء الشعب» مثلما كان ستالين يلقبهم بـ«أعداء الأمة» (vrag naroda). ويقتبس بالمثل من معجم هتلر عبارة «الصحافة الكاذبة» (Lugen Presse). فأى تهديد بالانتكاس إلى أسوأ عهود الديكتاتورية من أفكار ستالين وهتلر! تهديدٌ يبدو أن عواقبه الوخيمة بدأت تطل برأسها حينما أقدم أحد المهووسين بتأييد ترامب على إرسال طرودٍ متفجرة إلى رموز فى الحزب الديمقراطى ومؤسسات صحفية كانت CNN من بينها.
وبالمثل، فى دفاعها عن حق الصحفى فى طرح أسئلته، كانت المحكمة الفيدرالية، ومن ورائها الجماعة الصحفية، تدرك الخطر الذى يمثله مسلك الرئيس على السلم العالمى. فهل كان استهداف الصحفيين سيكون بهذا العنف وهذه المنهجية حول العالم لو لم يكن يحظى بمظلةٍ من خطاب الكراهية العنيف الذى ينطلق به لسان رئيس «العالم الحر» ضد الصحفيين؟
***
مجمل القول: لقد أدركت سلطة القضاء الأمريكى أن طرد الصحفى من موقع عمله هو تخطٍ للحدود القانونية بمثل ما أدركت السلطة الإعلامية أن طرده تخطٍ للحدود الأخلاقية. لذلك تغير المشهد بسرعة، وعاد چيم أكوستا، بعد أقل من أسبوعين، ليدلف إلى فناء البيت الأبيض فى ذلك الصباح المشرق، محاطا بكوكبة من المراسلين والمصورين الممتلئين شغفا بالمهنة وثقة بأنفسهم وتقديرا لدستور بلادهم وامتنانا لقضائهم النزيه. كان ثمة شعورٌ جميل بالنجاح فى واحد من اختبارات الديمقراطية الصعبة الذى لا تنجح فيه سوى الدول العفية.
فى ذلك الصباح، كان أكوستا هو الخبر، أو لعله، يومها فقط، كان هو الرئيس!

داليا سعودي كاتبة وأكاديمية مصرية حاصلة على جائزة الصحافة العربية
التعليقات