أيتام ابن خلدون - صحافة عربية - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 12:49 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

أيتام ابن خلدون

نشر فى : الخميس 20 سبتمبر 2018 - 10:10 م | آخر تحديث : الخميس 20 سبتمبر 2018 - 10:10 م

مر عابرا «التقرير العالمى للعلوم الاجتماعية» الذى أطلقته اليونسكو من «الجامعة الأمريكية» فى بيروت، على الرغم من أنه صدر مترجما هذه المرة باللغة العربية، ووزع ملخص عنه، لكن أرقامه لم تلفت ومحتواه لم يصدم، وهو يحمل معلومات مثيرة للغاية، ومحزنة جدا.
وإذا كان محور الأبحاث هذه المرة هو «اللامساواة» بين مواطنى البلد الواحد، ومن ثم الفروقات بين سكان العالم، يتبين أن البشرية تتقارب فيما بينها فى الظلم والمعاناة. واحد فى المائة فقط يملكون نصف ثروة الأرض، و62 شخصا بيدهم ما يساوى كل ما يملكه فقراء العالم. لكن ليس هذا الجديد واللافت، وإنما الجزء الذى يعنينا نحن العرب يظهر أن قطارنا لا يزال خارج السكة، ورحلة الألف ميل لم تبدأ ولو بخطوة واحدة. إذ يتبين أن «اللامساواة» عموما تتناسب طردا مع عدد الدراسات الأكاديمية التى يتم إنجازها. وبالتالى فإن الدول التى لا تهتم بالأبحاث الإنسانية والاجتماعية بشكل خاص هى من بين الأكثر فقرا والأقل أملا بالنهوض. نتيجة قد تبدو غريبة لكن 100 من كبار الباحثين تم اختيارهم لإنجاز هذا التقرير، لا بد أنهم بذلوا جهدا جديا يتوجب أخذه بعين الاعتبار. البيانات توضح أن 80 فى المائة من الدراسات التى عنيت بموضوع «اللامساواة» فى السنوات الماضية، أجريت فى أمريكا الشمالية وأوروبا الغربية، والباقى يتوزع على شرق وجنوب آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، وتأتى الدول العربية فى قعر الجدول بنسبة تكاد توازى الصفر بين الأمم الأخرى. صنفت أمريكا وبريطانيا وكندا، بين الدول الأكثر بحثا فى الموضوع بين كل الدول الغربية الأخرى. وبالتالى فليس الفقر صدفة ولا الخروج من التخلف ضربا من الحظ بل هو كد وتعب.
وإذا كان الجغرافيون والاقتصاديون حتى أهل العلوم السياسية باتوا يكتبون فى الاجتماع لأهمية الموضوع، فالمشكلة أن ما يحدث فى بلادنا هو العكس. الباحثون الاجتماعيون بدل أن ينكبوا على فهم عوراتنا وتوصيف أحوالنا، والاجتهاد حول الحلول، نجدهم يذهبون للكتابة فى السياسة والبحث فى الشؤون الاستراتيجية، حين يريدون البروز وتصدر الشاشات. أى أننا نعانى من هجرة معاكسة لو قارنا أنفسنا بالأمم الأوفر اقتصادا.
والدراسات الاجتماعية القليلة التى يتم إنجازها، غالبا ما ترمى فى الأدراج ولا يستفاد منها، مما لا يشجع على المراكمة والمتابعة.
وبالتالى فنحن مثلا لا نعرف تأثير الهواتف الجوالة علينا، ولا ما تفعله وسائل التواصل بحياتنا العائلية، أو مدى تأثير كل هذا على حركة الاقتصاد، وقدرتنا على الإنتاج. وكل ما نقرؤه عن هذه المواضيع هى اجتهادات صحافيين فى تحقيقات سريعة تحاول أن تلتقط المعلومة وتبنى عليها بسرعة. وهو بحد ذاته مهم، لكنه لا يكفى لمعرفة عميقة، والخروج بحلول، وبناء خطط طويلة الأمد.
وللدكتورة هدى رزق بحث ممتاز عن ولادة «معهد العلوم الاجتماعية» فى «الجامعة اللبنانية»، الذى يختلف ويتميز فى نشأته عن كل الكليات الأخرى. فقد تأسس عام 1959 أيام الرئيس الذى له الفضل الأول على المؤسسات، فؤاد شهاب، بعد أن تبنى خطة بعثة «إيرفد» للإصلاح السياسى والاجتماعى. ولد المعهد من ضمن تلك المؤسسات التنموية والاقتصادية التى اعتبرها الرئيس شهاب ضرورية لترفد الدولة بالرؤية الثاقبة من خلال الدراسات الرصينة. لكن المعهد سرعان ما فقد دوره فى مطلع السبعينات، مع بدء الانحدار السياسى التدريجى. وهذا يلتقى مع نتائج التقرير الدولى لليونيسكو، ويدلل على أن ذبول الإنسانيات أكاديميا، وجعلها موئلا للراسبين، أو اختصاصا للخائبين، يترفع الشبان عنها ويتركونها للفتيات باعتبارها الأسهل، هو مما يتوجب مقاومته بشدة، والسعى لتغيير الواقع بخطوات عملية من وزارات التربية.
يتباهى العرب بأنهم أسسوا علم الاجتماع، ويرددون اسم ابن خلدون، لكنهم لا يتنبهون إلى أن هذا العلم الذى هو فى لب تقدم الأمم لم تعد له روافد أو إنجازات عربية تذكر. طلابنا يدرسون إميل دوركهايم وأوغست كونت وماكس فيبر، وكأنما هم فى غربة عن أنفسهم. ويتخرجون وجل همهم إيجاد وظيفة، وغالبا ما يعملون فى غير مجالاتهم، لقلة الفرص.
ثمة اختصاصات إنسانية فى الجامعات بدأت تغلق أبوابها مثل الفلسفة، لأنها لا تجد طلابا، وهناك علوم ينظر إليها بازدراء مع أنها من الأكثر جوهرية وخطورة مثل التاريخ. وهى جميعها تصب فى الدراسات الاجتماعية وتتكامل معها.
وإذا أردت أن تعرف أهم محنة يعانى منها علم الاجتماع فى بلادنا عدا التقاعس واللاجدية، فهو ندرة الموضوعيين الذين يتحلون بروح علمية بعد أن ساد التطرف، وشاع التعصب، وندر أولئك البحاثة الذين بمقدورهم رؤية المعضلات من زاوية بانورامية لا من عين ضيقة تلونها الحزبية وتلوثها الطائفية.
وحين تنقلب المقاييس وتضيع البوصلة على النحو الذى نعيش، نصبح بحاجة إلى تقرير دولى، لأننا نؤمن بصدقية الأجنبى عن العربى، وهذه محنة بحد ذاتها. والمحنة الكبرى أننا حتى مع تقرير اليونيسكو لا يبدو أننا نصدق كم هو سحيق القاع الذى انحدرنا إليه.

سوسن الأبطح
الشرق الأوسط ــ لندن

التعليقات