هذا الزِّي الذي يحكمنا - نيفين مسعد - بوابة الشروق
الخميس 25 أبريل 2024 10:41 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

هذا الزِّي الذي يحكمنا

نشر فى : الخميس 20 سبتمبر 2018 - 10:15 م | آخر تحديث : الخميس 20 سبتمبر 2018 - 10:15 م

كثيرا ما راودتني فكرة الكتابة عن موضع الزِّي من اهتماماتنا العامة بعد أن أصبحت نقاشاتنا تبدأ من الزِّي وأحيانا تنتهي به، فكانت تأتي فكرة أخرى لتزاحمها وتؤجلها إلى حين، غير أن مشاهد ثلاثة توالت أمامي خلال الفترة الماضية دون سابق إنذار فإذا بها تفرج عن الموضوع المؤجل من شهور وتُخرِج هذا المقال إلى النور. المشهد الأول من إحدى المدن العربية، فتاة في الثلاثين من عمرها ترتدي عباءة سوداء مفتوحة ومن تحتها سروال رمادي وبلوزة بيضاء عليها بعض الورود الصغيرة. تخرج الفتاة في الصباح الباكر متوجهة إلى عملها كالمعتاد، تمر بإحدى الحسينيات التي تقع على مقربة من بيتها وأمامها تنتصب خيمة يرفرف من فوقها علم أسود ضخم في إشارة إلى ذروة الألم في التاريخ السياسي للشيعة: ذكرى استشهاد الإمام الحسين. تلقي الفتاة بالسلام على من تصادفهم في طريقها فيردون عليها بهمهمات لا تفك شفرتها، يرمقها أحدهم بنظرات غير ودية وعيناه مصوبتان إلى بلوزتها البيضاء وورودها الصغيرة قائلا: أسرعي الخطى يا سُنيّة. هكذا ؟ لم يرُق لصاحبنا كما هو واضح ألا تتشح الفتاة تماما بالسواد في هذه المناسبة الدينية الحزينة فقرر أن يناديها بمذهبها: "يا سُنّية" ، بدا وكأنه لا يعرف اسمها مع أنه فعلا يعرف اسمها، قبيح جدا أن نتنادى بأدياننا وطوائفنا ففيها معني استبعادي لا يليق. أن تتبع مذهبك أغلبية بل وحتى أغلبية كبيرة في منطقة أو حي فهذا لا يرتب لك حقوقا على غيرك فأنت مواطن وهم مواطنون، ملبسهم حَرَمُ خاص محظور عليك كما لملابسك حرمتها في سياقات أخرى لا تهيمن عليها.

***
المشهد الثاني من مدينة عربية أخرى، هي سوف تظل مدينة عربية حتى وإن مضى علي احتلالها ألف عام، فالاحتلال جريمة لا تُمحى من ذاكرة الشعوب. جمع كبير من البشر، أهلُ ورفاق نضال وجنود مدججون بالسلاح وعدد لا نهائي من الكاميرات، الكل هنا يستعد لاستقبال الفتاة الجسورة ذات السبعة عشر ربيعا وهي تخطو أولى خطواتها خارج الأسر بعد أن دفعت فاتورة تمردها على سلطة المحتل، سبق لأخيها وأمها أن دفعا فاتورة مماثلة لهذا التمرد. لا.. كلمة تمرد ليست مناسبة فهي مأخوذة من قاموس المحتل، أما قاموس حركات التحرر فله مفردات مختلفة، وهذه الأسرة العربية لا تُطبِّع أبدا. يعلق أحد متابعي المشهد قائلا: لو أنها ارتدت غطاء للرأس تخفي به شعرها الذهبي المتماوج ما أعارها أحد التفاتا، فغير بعيدة عنها أسيرة إسلامية تحررت وخرجت للنور فلم يحفل بها أحد، حجابها حجب عنها إنصاف المجتمع. منطق عجيب غريب، بدلا من أن يدافع صاحبنا عن حق كل الأسيرات في سجون الاحتلال يتعامل مع بعضهن بعنصرية ويهاجمهن، تتضاءل قضيته وتتقزم وتتحول من قضية وطن إلى قضية زي. قبل أن تتخذ المقاومة لنفسها وصف "الإسلامية" كان للمناضلات أمثال دلال مغربي ووفاء إدريس شأن آخر، كانت مكانتهن عالية كما هي النجوم في السماء، ولم يكن أحد يلتفت إلى ما يرتدينه إلا من باب الاطمئنان إلى أن الزِّي يخفي أداة التفجير أما غطاء الرأس فلا .
***
المشهد الأخير من مدينة عربية ثالثة، مجموعة من النساء يظهرن على غلاف إحدى المجلات الدينية، فيهن المحجبات وفيهن غير المحجبات، صحفيات وأستاذات جامعيات ورئيسات مجالس ومؤسسات لها وزنها واعتبارها في المجتمع، والجامع بينهن كافة أنهن يتصدين بقوة لظاهرة لا أبأس منها ولا أسوأ: ظاهرة التحرش. يصدر عدد المجلة ويصير بين أيدي القرّاء فإذا بالدنيا تقوم ولا تقعد، إذ كيف لمجلة دينية أن تتسلل إلى غلافها رؤوس بلا غطاء، هذا لعمري اختراق للمؤسسة التي تصدر عنها المجلة الدينية إياها، التحقيق واجب ومساءلة مُعٌد الملف لا مهرب منها! لم يشفع لصاحبات الرؤوس الحاسرة أنهن يدافعن عن قضية أخلاقية بامتياز، لم ينجيهن أنهن والمؤسسة الدينية في خندق واحد في هذه النقطة بالذات: رفض التحرش، فما شأنهن أصلا بالفضيلة ؟ وما أقحمهن في التصدي لظاهرة هن وأمثالهن سبب في انتشارها ؟!
***
الزِّي .. الزِّي ..الزِّي ، هذا الزِّي بات يتحكم فينا ويهيمن على تفكيرنا، يقلب أولوياتنا رأسا على عقب ويحدد الزاوية التي ننظر منها للقضايا الكبرى فإذا بها منزوعة الجوهر. هل هذه حالة أم مرحلة ؟ هل هي محض تأثر برياح صحراوية هبّت علينا قبل فترة أم هي انعكاس لترد داخلي شامل ؟. أتذكر أنني رأيت في أحد مطارات الولايات المتحدة كهلا في الخمسين يرتدي فوق ثيابه روب حمام أبيض عليه علامة أحد الفنادق الشهيرة ، بدا المشهد غريبا وربما حتى كوميديا لكن أحدا لم يحملق في الرجل ولا أحرجه بكلمة، وعندما دخل إلى الطائرة خلع روبه بمنتهى الثقة وأعطاه للمضيفة كما يفعل ركاب كثيرون مع معاطفهم، فمتى نعرف أن ملابسنا لا تخص سوانا ؟ من يقول لبطل المشهد الأول أن هناك شعرة تفصل بين احترام مشاعر الجار واحترام الحق في الاختلاف، ويقول لبطل المشهد الثاني أن النضال لم يكن له زي محدد وأبدا لن يكون، ويقول لأبطال المشهد الثالث أن التحرش هو المشكلة وليس مظهر المحاربات له. لا أستبعد أن يعلق بعض من سيقرأون هذا المقال متسائلين: هل هذه دعوة لارتداء روب الحمام فوق ثياب الخروج ؟ وبنفس الروح الفكاهية أجيب: بلى هي فعلا كذلك !!

نيفين مسعد أستاذة بكليّة الاقتصاد والعلوم السياسيّة جامعة القاهرة. عضو حاليّ فى المجلس القوميّ لحقوق الإنسان. شغلت سابقاً منصب وكيلة معهد البحوث والدراسات العربيّة ثمّ مديرته. وهي أيضاً عضو سابق فى المجلس القوميّ للمرأة. حائزة على درجتي الماجستير والدكتوراه من كليّة الاقتصاد والعلوم السياسيّة – جامعة القاهرة، ومتخصّصة فى فرع السياسة المقارنة وبشكلٍ أخصّ في النظم السياسيّة العربيّة. عضو اللجنة التنفيذية ومجلس أمناء مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت. عضو لجنة الاقتصاد والعلوم السياسية بالمجلس الأعلى للثقافة. عضو الهيئة الاستشارية بمجلات المستقبل العربي والسياسة الدولية والديمقراطية
التعليقات