يانكــا - حسام السكرى - بوابة الشروق
السبت 20 أبريل 2024 1:48 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

يانكــا

نشر فى : السبت 19 أغسطس 2017 - 8:35 م | آخر تحديث : السبت 19 أغسطس 2017 - 8:35 م
أريد أن أحكى حكاية فتاة تدعى يانكا.

قصتها تفرض نفسها علىّ رغم أننا عشنا أسبوعا حافلا بالمآسى، شهدت فيه إسبانيا عمليات قتل بالجملة لأبرياء، قام بها مسلمون مؤمنون مرضاة لله ورسوله، ومرت أخبارها مر الكرام دون أن ينتبه لها كثيرون.

أسبوع مرت فيه الذكرى الرابعة للمذبحة، وقرأنا فيه أن سجين العقرب هشام جعفر فقد الإبصار تماما بعينه اليمنى بينما تتلاشى الرؤية فى عينه اليسرى. وهو أمر تصرخ زوجته منار الطنطاوى فزعا من حدوثه، منذ اعتقال الصحفى والباحث الذى عرف بـ«شيخ الإصلاحيين» دون محاكمة عام ٢٠١٥.

هو أيضا الأسبوع الذى شهد مرور أربع سنوات على احتجاز المصور الصحفى شوكان، ومرور مدد أخرى متفاوتة على آلاف المسجونين والمحتجزين والمختفين قسريا بينما بح صوت الكثيرين من المطالبين بسيادة العدل ودولة القانون ف.

رغم هذا كله أشعر بأننى منقاد للحكى عن يانكا: الفتاة المجرية ذات الخمسة عشر عاما.

فى صيف كل عام تنتشر فى ربوع بلدها معسكرات لمحبى الفنون يمارسون فيها الرسم والنحت والموسيقى والتصوير والغناء. ذهبت يانكا كغيرها من الفتيان والفتيات، إلى واحد من هذه المعسكرات فى غابة تقع على أطراف بلدة مطلة على نهر الدانوب. قضت أسبوعين فى أحضان الطبيعة مارست فيهما فنون الرسم والتصوير بالألوان.

فى آخر أيام المعسكر قررت يانكا أن ترسم واحدا من بيوت القرية القريبة الوادعة. مشهد الرسامين فى شوارع وساحات هذه القرى الجميلة مألوف وليس مستغربا على الإطلاق. لذا لم تتردد يانكا فى وضع حامل الرسم أمام بيت هادئ مزين بالورود والأزهار على جانب طريق حجرية صغيرة. سقط ضوء الشمس على جانب البيت فأضاءت وروده، ولمعت حجارته لتصنع مشهدا بديعا. أمسكت أنامل الفتاة بالفرشاة وبدأت تمزج ألوانها وتعيد تشكيل المنزل الهادئ على نسيج اللوحة المشدود. بعد نحو ساعتين من المتعة، فتح باب البيت على حين غرة وخرج منه رجل بدين نوعا ما اقترب منها وسأل: ماذا تفعلين؟ هل ترسمين منزلنا؟

ارتبكت يانكا وفكرت: ربما كان ينبغى أن أستأذن. 

خرجت كلمة «نعم» منها رقيقة حذرة ثم أردفت: أرجو ألا يكون فى هذا شىء من الإزعاج لكم. اعتذر إن كنت... 

وقف الرجل خلفها. تأمل الرسم قليلا ثم قال: أريد أن أشترى منك هذه اللوحة؟ إنها جميلة بالفعل.
دهشت يانكا وغمرتها موجة من الارتباك. كانت هذه هى المرة الثالثة التى تجرؤ على الرسم بالزيت. أجابت: لم أنته منها بعد. لا أشعر أنها اكتملت. أمامى مزيد من العمل ولكننى للأسف سأغادر بلدتكم اليوم. ربما آتى لإكمالها فى أيام أخرى.

هز الرجل رأسه ودخل المنزل. عاد بعد دقائق ومعه ورقة ناولها ليانكا الصغيرة وهو يقول: هذا هو رقم هاتفنا. أخبرى والديك أن لك منزلا فى قريتنا وأنك ستكونين ضيفتنا لأى مدة، فى أى وقت ترغبين فيه فى العودة لإكمال لوحتك. وعندما تشعرين أنها اكتملت اسمحى لى بشرائها منك. أعتذر للمقاطعة.

تناولت يانكا الورقة غير مصدقة. نظر الرجل للرسم وابتسم قبل أن يدخل المنزل: أحببت لوحتك حتى قبل أن تكتمل. فى الواقع أراها مكتملة. رسمك جميل بالفعل.

أعرف يانكا ويربطنى بها وبعائلتها معارف وأصدقاء. وعندما سمعت حكايتها دمعت عينى من الغبطة عندما تصورت ما شعرت به ذات الخمسة عشر عاما. لمست قصتها وترا فى نفسى لا لشىء إلا لأنها.. عادية.

لا أحب البكائيات التى تستميل كثيرين بحكايات «أوروبا والدول المتقدمة» ولا أستسيغ «الصعبنة» على الحال الذى وصلنا إليه. لكن يانكا جعلتنى أدرك أن سقف أحلامنا تواضع كثيرا، وأن موجة الطغيان والفساد والدكتاتورية جعلت أقصى ما نرغب فيه لهذا الشعب ألا يظلم وألا يسجن وألا يعذب وألا يموت.

طموحنا لا ينبغى أن يتوقف عند السعى للحرية والعدالة لهشام أو شوكان أو غيرهما ممن هم داخل السجون والمعتقلات أو خارجها. سيخرجون وسينعمون بالحرية، وسيندحر فكر القتل والإرهاب باسم الدين. ولكن هذا لن يحدث دون أن نحتفظ فى خضم هذا كله برؤية تتجاوز النجاة من مستنقع التخلف والديكتاتورية والفاشية، إلى الإيمان بأن الحق فى الحياة ليس ترفا، وبأن هناك طموحا يتجاوز مجرد النجاة من الظلم أو التعذيب.

أحلامنا تتجاوز تجنب الموت، ورؤانا ستجسد واقعا تنتشر فيه أجيال من المصريين من مختلف الأعمار، فى المدن والقرى والنجوع، يرسمون ويعزفون ويرقصون. يستمتعون بالحياة وينشرونها مثل يانكا، فى مجتمع يقدر الناس فيه الحق والخير والجمال، مثل صاحب البيت الطيب فى هذه القرية النائية الصغيرة.
التعليقات