القيصر .. - أيمن الصياد - بوابة الشروق
الثلاثاء 16 أبريل 2024 9:13 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

القيصر ..

نشر فى : الأحد 18 مارس 2018 - 8:20 ص | آخر تحديث : الأحد 18 مارس 2018 - 10:15 ص

يبدأ المواطنون الروس اليوم (١٨ مارس) في الإدلاء بأصواتهم في خامس انتخابات رئاسية منذ تنحي بوريس يلتسين (الرئيس الانتقالي) عن السلطة عام ١٩٩٩. لا مفاجأة متوقعة يمكن أن تأتي بها الصناديق. فالحاصل أن الروس، لأسباب عدة لن يذهبوا ليختاروا فعليا بين المرشحين الثمانية، بل للاقتراع (واقعيا) على استمرار «فلاديمير فلاديميروفيتش بوتين» رئيسا لجمهورية روسيا الاتحادية.

ـــــــــــــــــــــــــــ

شخصية الحاكم الأوحد للكرملين؛ وريث الإمبراطورية السوفيتية التي تحاول العودة تستحق أن «نقرأها» بعناية

بحكم ثقل التحولات الكبرى، كان بوريس يلتسين الذي حكم روسيا «الجديدة»، بعد انهيار الإمبراطورية السوفيتية رئيسا «انتقاليا» بكل المقاييس. لم يترك خلفه ربما من أثر غير هذا الرجل: «فلاديمير بوتين»، الذي كان قد اختاره بنفسه لتولي مهام رئاسة الدولة حينما تنحى في ديسمبر ١٩٩٩، ممهدا له طريق الوصول إلى الكرملين بعد أشهر عبر صناديق اقتراع جاءت نتائجها تبعا للتقاليد المألوفة في مثل تلك المجتمعات التي لم تكن قد تحررت ثقافيا من التقاليد الموروثة للدولة «الشمولية».

وبعد فترتين رئاسيتين (أربع سنوات لكل منهما)، اضطر ثعلب بطرسبرج لترك المنصب (لا السلطة) التزاما بما كان يوجبه الدستور أيامها (فترتين رئاسيتين على الأكثر). 

ثم كان أن تغير الدستور، ليمد فترة الرئاسة إلى ست سنوات، وليعود الثعلب إلى الكرملين ٢٠١٢ رئيسا لستة أعوام أخرى. يومها حرصت «دولته» على أن يكون مشهد دخوله القصر إمبراطوريا مهيبا لا يليق إلا بالقياصرة (ولا عزاء لذلك «البروليتاري» ذي الملابس البسيطة المسجى جثمانه المحنط عند الجدار، مع أحلامه الأيديولوجية النبيلة عن العدالة والمساواة). فهذا زمن القياصرة: سجادةٌ حمراءٌ طويلة. ورجلٌ «واحد»، يفتح له الجنود باب الحكم.. والسلطة. 

***

يحلو للبعض أن يشبهه ببطرس الأكبر (١٦٧٢ ــ ١٧٢٥) قيصر روسيا «العظيم»، الذي يذكر التاريخ كيف بنى مجده (قبل مجدها) على بحر من الدماء. والذي تُنسب إليه المدينة المحورية في التاريخ الروسي «بطرسبرج»، التي اعتادت أن تغير اسمها مع تغير العهود، والتي كان، للمصادفة أن شهدت مولد فلاديمير بوتين ذاته قبل خمسة وستين عاما. قبل أن يأخذ طريقه إلى أجهزة الاستخبارات الروسية.. ثم الكرملين حيث ولد بطرس (القيصر) نفسه، وحيث يحلم خليفته بمجد الإمبراطورية … أيا كان الثمن.

يحكي المتابعون لسيرته الذاتية كيف عرف رجل الاستخبارات «السوفيتية» القديم طريقه إلى السلطة، وكيف كان عكس سلفه، يعرف جيدا طريق الاحتفاظ بها في مثل تلك المجتمعات المثقلة بإرث الشمولية ومصالحها المتشابكة. فما أن وصل إلى القصر مفوضا من سلفه المريض حتى بادر بالتلويح «بسيف المعز، وببريق ذهبه» فكان أول مرسوم وقعه يمنح رؤساء الاتحاد الروسي السابقين وعوائلهم حصانة ومميزات اجتماعية. ثم كان أن اشترى ولاء رجال الأعمال البارزين النافذين عهد يلتسين، حيث وافق، دون معارضة تذكر على عدم ملاحقتهم قضائيا، رغم ما كان معروفا عن فسادهم. حتى أولئك الذين لم يسارعوا في حينه بدخول «بيت الطاعة» (ميخائيل خودوركوفسكي مثالا) تم العفو عنه رغم حكم بالسجن بتهمة التحايل والفساد.

يؤمن قيصر الكرملين وريث «الدولة الستالينية» المخيفة بسلطة الرجل الواحد المركزية المطلقة. كما يجيد الترويج لها، ولذا فلم يتردد أبدا في الالتفاف حول جوهر مبادئ «الجلاسنوست» التي أنهت ثقافة الحكم الشمولي المركزي في الاتحاد السوفيتى السابق، فقرر (بعد أزمة رهائن بسلان ٢٠٠٤) أن يستأثر، كرئيس للدولة بالحق في تعيين رؤساء الأقاليم الروسية، بدلا من انتخابهم من المواطنين الروس. ثم كان عبر قمع ممنهج للمعارضة، وآلة إعلامية ضخمة، وباستثمار موروث الدولة الشمولية العميقة، وتعزيز مصالح الأوليجاركيا (الأمن والقضاء ورجال الأعمال) أن نجح في الاحتفاظ بشرعية «صناديق الاقتراع»، التي بدا حرصه عليها واضحا في دعوته «الملحة» قبل يومين للمواطنين الروس للمشاركة فى الانتخابات الرئاسية التى تبدأ اليوم «أيا ما كان اختيارهم» حسب ما نقلته وكالة (تاس) الرسمية الروسية.

***

ككل القياصرة لا يطيق الرجل إلا أن يكون «حاكما أوحد»، يفتح له الجنود باب الحكم.. والسلطة

شخصية الحاكم الأوحد للكرملين؛ وريث الامبراطورية السوفيتية التي تحاول العودة، كانت على الدوام موضوعا لقراءة المعلقين، ولعدسات المصورين الفاحصة. التي اجتهدت في سبر أغوار الرجل ذي الوجه «السيبيري» الأبيض. راسمة كثير من الظلال، والأضواء.. والتفاصيل.

كرجل استخبارات قديم يكره بوتين السياسة، وقواعدها التي قد تغل يده من أن تذهب بعيدا لتقتل العميل السابق على أريكته في أحد شوارع «سالزبورى» البريطانية غير آبهٍ بنتائج استخدام الأسلحة الكيماوية على أرض إحدى دول الناتو، في استعادة «غير محسوبة» لآليات الحرب الباردة التي كان العالم قد هجرها منذ عقود.

وكغيره من القياصرة، أو الذين يتوهمون (أو يدعون) أنهم مبعوثو العناية الإلهية، يكره بوتين الديموقراطية (كما يكره السياسة)، وإن كان كرجل استخبارات ماهر، يجيد الالتفاف حول جوهرها، فلا يتردد (حين اضطر دستوريا) في أن يحكم لفترة «من خلف ستار».

بنعومة استخباراتية، وضع بوتين بهدوء جوهر «جلاسنوست» و»بيروسترويكا» ١٩٩١ في ركن مظلم من متحف التاريخ، ليعيد فعليا روسيا «السوفيتية / القيصرية» بلا شيوعية. فالدولة عادت لتحتكر كل شيء، والقرار؛ الذي يباركه «الرفاق» عادة عاد إلى الزعيم.  

لم تعد «برافدا» لينين التي عرفنا لثمانين عاما موجودة، ولكن، واقعيا صارت هناك مائة برافدا «بوتينية»، وإن تباينت الأسماء، وأصبحت أساليب صناعة الوعي، وغسل العقول، عبر إعلام السلطة السافر والخفي أكثر حرفية، ودهاء «واستخباراتية»

خبرة رجل الأمن السابق مع الاحتجاجات الشعبية لم تكن أبدا على ما يرام. لم تكن أصوات التظاهرات الروسية الضخمة ٢٠١٢ (والتي قيل وقتها إنها استلهمت تظاهرات الربيع العربي) تجربته الوحيدة غير السارة. فالرجل الذي كان يخدم فى ألمانيا الشرقية (الحديدية) وقت أن أسقطت الجماهير جدار برلين (نوفمبر ١٩٨٩)، لتسقط معه دولة القمع الحديدية، وليبدأ العد التنازلي السريع لسقوط الاتحاد السوفيتي ذاته وإمبراطوريته (الشيوعية / القيصرية) اتحاد الجمهوريات السوفيتية الاشتراكية (ديسمبر ١٩٩١). شهد بعينيه ماذا بقدرة الجماهير الباحثة عن الحرية أن تفعل. ولذا لم يتردد أبدا في العصف بمعارضيه السياسيين مستخدما كل آليات الاستخبارات المعروفة.

وكما يعرف متسلقو الجبال عن حال الدب القطبي، فليس لدب الكرملين أصدقاء، فرغم ما بدا من احتفائه بالرئيس المصري ذات يوم، لم يتردد فلاديمير بوتين أبدا في أن يتجاهل الرواية المصرية لحادث الطائرة الروسية (٣١ أكتوبر ٢٠١٥)، والأخذ برواية البريطانيين. بل لم يتردد في حينه فى اتخاذ قرار راديكالي (لم تتخذه دولة أخرى) بإيقاف رحلات مصر للطيران إلى المطارات الروسية. فضلا عن الامتناع عن إعادة رحلات السائحين الروس لمدة تزيد عن عامين.

***

 ثم ذهب الرجل في النهاية إلى سوريا ليصبح أكثر المستفيدين من اللافتة البراقة السحرية «الحرب على الإرهاب»

دوليا. وكحال كل القياصرة، أو المتشبهين بهم لا يطيق الرجل أن يتجاهله الآخرون. كما لا يطيق أن يعيش دون أن يسمع طبول الحروب، وإن كانت قادمة من بعيد.

عبر سنواته الطويلة في القصر لم يمل الرجل أبدا من محاولة استدعاء مجد الإمبراطورية السوفيتية الغابرة، في غير زمانها، وبغير أدواتها الأيديولوجية العتيقة. فلم يتردد عندما لم يدع يوما إلى قمة زعماء العالم الثمانية G8 (٢٠١٤) أن تعترض طائراته سفنا أمريكية في البلطيق، للمرة الأولى منذ الحرب الباردة. كما لم يتردد في أن يصفي حسابه (ربما الشخصي كرجل استخبارات سابق) مع جاسوس متقاعد، وإن اقتضى الأمر استخدام أسلحة كيماوية على أرض دولة من الدول الرئيسة في حلف الناتو، للمرة الأولى أيضا منذ الحرب الباردة كما ذكَّره البريطانيون. 

يقف الطاووس الروسي مزهوا باستعراضاته العسكرية الضخمة، متباهيا بسرعة صواريخه العابرة للقارات «يمكنها أن تصل إلى أى مكان في الأرض» كما يقول.. لغةُ الحرب الباردة في غير زمانها، وإن شاركه فيها «الكومبارس القديم» الذي وصل إلى البيت الأبيض فى غفلة من الزمان. 

ينسى القيصر العائد أن «الصراعات والحروب» صار لها قوانين أخرى، وأن عالم ما بعد هتلر ليس هو عالم ما بعد بن لادن. ثم ينسى (أو بالأحرى يتناسى) أنه خاض حربا «معلوماتية»، وإن أنكر ليأتي «بمهرج» على رأس القوة العظمى المنافسة، ليضمن، على الأقل أن تَدْخل واشنطن / فيما دخلت فيه من ارتباك فى رأس السلطة، ما زال يهز البيت الأبيض بعد عام كامل من انتخاب ترامب. 

يتباهى قيصر الكرملين بصواريخه ناسيا أن اللطمة الكبرى للقوة العظمى، بعد «بيرل هاربر» لم تأت من اليابان (ثالثة دول «المحور»)، كما لم تأت من موسكو (الشيوعية أو الروسية) إذ كان في «أفكار عقائدية مطلقة» لشباب صغير قادم من دول «صديقة» في الشرق الأوسط «ما يكفى لأن تُسقط طائرةٌ أمريكيةٌ برج التجارة العالمي على شاطئ مانهاتن في ذلك اليوم المشهود من خريف ٢٠٠١. وأن تلك كانت الطرقات الأولى على باب فُتح في النهاية على مصراعيه ليعمل كل المتنافسين والأعداء، وإن اختلفت النوايا وكثرت الأكاذيب تحت راية واحدة «الحرب على الإرهاب». وأنه شخصيا كان من أكثر المستفيدين (والمتسترين) خلف اللافتة البراقة السحرية. وسوريا (بشار والغاز) مثالا تنافس صور بلداته المدمرة الصور الأيقونية للندن وبرلين إبان الحرب الكونية الثانية.

***

أثم كان أن أتى بالأتراك والإيرانيين إلى الطاولة ليرسموا الحدود «الواقعية» الجديدة فى «لوزان» جديدة

يا كان من أمر، فواقع الحال أن الدب الروسي الآن في ذروة نشوته. أقدامه الثقيلة في سوريا، التي رأينا جميعا كيف منع رجاله (دون أى كياسة بروتوكولية) رئيسها «المفترض» بشار الأسد من أن يقف بجواره؛ ندا بند، فى ذلك الفيديو الشهير (١١ ديسمبر ٢٠١٧). وهو الأمر الذي ربما لم يختلف في رسالته كثيرا عن محاولته إزاحة المقعد من تحت الرئيس التركي أردوغان حين اجتمعا مع روحاني فى سوتشي لبحث الأزمة السورية (٢٣ نوفمبر ٢٠١٧)

الدب الروسي الآن في ذروة نشوته. فتحت راية «الحرب على الإرهاب» السحرية؛ التي تحتمل ألف وجه فرض إرادته حلا «دمويا» في سوريا العربية، رغم أنف مثالية أوباما المترددة الذي اعتقد أن للشعوب «وحدها» أن تمسك بزمام أمورها.

الدب الروسي الآن في ذروة نشوته، فهو الذي أتى، واقعيا بالأتراك والإيرانيين إلى الطاولة ليتقاسموا النفوذ والقواعد في شرقنا «العربي». وليرسموا الحدود «الواقعية» الجديدة فى «لوزان» جديدة، بعد أن كان، مثل غيره قد وجد فرصته الذهبية في حمق ووحشية تنظيم الدولة (داعش) ليغسل يده المضرجة بالدماء، وليدفن تحت أنقاض حلب وغوطة دمشق ليس فقط مئات المدنيين السوريين، بل أيضا حقائق النفط والغاز  والرغبة العارمة في استعادة النفوذ «السوفيتي» في الشرق الأوسط.

ولكن .. ربما كان على «القيصر» أن يتواضع قليلا، فالماضي لا يعود

يبقى أنه في زمن يعود فيه ماو؛ الرجل الأوحد وإن في زى «شي جين بينج»، لن يكون غريبا أن يستوحى بوتين روح ستالين، وإن ذهب للكنيسة مصليا أو متدثرا «بأفيون الشعوب». ولكن ربما على القيصر أن بتواضع قليلا. فالماضي لا يعود، وخرتشوف لن يكون بوسعه اليوم، على الأرجح أن يضرب منصة الأمم المتحدة بحذائه. 

***

وبعد..

فنظريًا، لا يمكنك أن تتحدث عن هذا الثعلب الأبيض القصير على أنه بات رئيسا لروسيا الاتحادية (لفترة جديدة «رابعة») فالروس لم يغادروا صناديق الاقتراع بعد. ولكن، واقعيا بعضُ انتخابات اليوم لا تحتاج أن تنتظر إعلان نتائجها.

ومهنيا، قد يقول قائل (وله كل الحق): لماذا يذهب الكاتب بعيدا ليكتب عن بوتين أو روسيا (العائدة)، ولا يكتب عن الانتخابات فى مصر؟

والإجابة، التي أحسب أن كل قارئ لهذه الصفحة يعرفها ربما تتلخص في نقطتين:

أولاهما ـ أنه وبغض النظر عن أن الذي نحن بصدده هذه الأيام لا يندرج ضمن ما تسميه كتب السياسة، تعريفا «انتخابات»، وأن احترام اللغة «والقلم» يستوجب أن نسمي الأشياء بأسمائها، فالحاصل أنني (وغيري) كتبنا في الموضوع، حين كان من الممكن أن يكون لكلامنا أثرٌ أو فائدة، إن كان هناك من يعنيه تدارك الأمور، ووضع هذا البلد على الطريق «الصحيح» للمستقبل، ثم أن ذلك كله؛ حبرا وقولا كان في نهاية المطاف «حرثا في البحر». 

والثانية ـ أننى ممن قرأوا «أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ..» وممن أدركوا قيمة أن نتعلم من التاريخ، ومن تجارب الآخرين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــ

لمتابعة الكاتب:

twitter: @a_sayyad

Facebook: AymanAlSayyad.Page

ــــــــــــــــــــــــــــــــ

روابط ذات صلة:

– انتخابات للرئاسة .. بلا سياسة

ــ «نتمنى أن يكون لدينا انتخابات» - لقاء تلفزيوني

نحن.. وبوتين ـ درسُ «الجماهير»

ما بعد «تجريف السياسة»

 ــــــــــــــــــــــــــــــــ

الصور والرسوم:

  • - Vladimir Putin Portrait: ©Platon
  • - Putin enters Andreyevsky (St.Andrew's ) Hall at the Great Kremlin Palace, on May 7, 2012, during his inauguration ceremony. AFP PHOTO/ RIA-NOVOSTI/ ALEXEY DRUZHININ
  • - Putin Cartoon: By Chappatte
أيمن الصياد  كاتب صحفى
التعليقات