«أسوأ ساعة».. من بلاغة الزعيم إلى بلاغة الشعب! - محمود عبد الشكور - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 11:49 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

«أسوأ ساعة».. من بلاغة الزعيم إلى بلاغة الشعب!

نشر فى : الخميس 18 يناير 2018 - 9:50 م | آخر تحديث : الخميس 18 يناير 2018 - 9:50 م
يمكنك أن تقرأ الفيلم البريطانى العظيم «darkest hour» ــ الذى ترجمناه بتصرف إلى «أسوأ ساعة» ــ من زوايا كثيرة لامعة وملهمة، فهو فيلمٌ عن الديمقراطية البريطانية التليدة فى مواجهة الديكتاتورية والفاشية، وهو أيضا فيلم يوثق أحرج ساعات التاريخ فى بريطانيا باتخاذ قرار المواجهة العسكرية ضد هتلر بدلا من ترويضه، وهو قبل كل ذلك قصة عودة وينستون تشرشل إلى النصر والمجد، بعد هزيمة مروعة اُعتبر مسئولا عنها كأمير للبحرية فى معركة جاليبولى فى الحرب العالمية الأولى.

ولكنى قرأت الفيلم الذى أخرجه «جو رايت»، بالأساس، باعتباره عملا بليغا عن بلاغة الشعب التى لولاها ما كان لبلاغة الزعيم السياسى أى معنى، إنها حكاية زعيم عظيم نرى من خلالها قصة أمة أعظم.

يحتفى الفيلم بالكلمات، بالبلاغة، برئيس وزراء استثنائى، ولكن حفاوته الأهم، لو أمعنت النظر، بما يمثله الرجل من العناد والكبرياء البريطانى، ومن سخرية الإنجليز اللاذعة، ومن إيمانهم بتفردهم بين دول أوروبا، ومن قدرتهم على الصمود فى أحلك الساعات، وفى الأوقات العصيبة، هنا فقط يظهر معدن الأمم، وليس فى أوقات النصر والقوة.

منهج السرد توثيقُ تلك الأيام الحاسمة من مايو عام 1940، عندما تولى وينستون تشرشل رئاسة الوزراء، خَلَفا لنيفيل تشيمبرلين، ثم تشكلت وزارة للحرب لمواجهة الغزو النازى لأوروبا بسقوط بولندا وتشيكوسلوفاكيا والنرويج والدانمارك، ثم هولندا وبلجيكا وفرنسا، ومواجهة خطر غزو إنجلترا نفسها.. فى هذه الأيام حالكة السواد ظهرت عبقرية تشرشل وعظمة شعبه معا، فكان قرار رفض التفاوض مع هتلر عبر موسولينى، وقرار الصمود العسكرى مهما كان الثمن، فى وقت كانت بريطانيا تقريبا بمفردها، أمريكا على الحياد، وروسيا لم تدخل المعركة بعد.

الديمقراطية البريطانية تسمح بجدل شرس فى البرلمان، ورجل لا يمتلك إلا البلاغة يكتشف بلاغة البسطاء وقوتهم، يتعلم منهم، فتبدأ ملحمة الصمود حتى النصر، لا يعدهم تشرشل فى خطابه الأول سوى بالعرق والدم والدموع، قد يرفع روحهم المعنوية أحيانا كذبا بادعاء التقدم، بينما تنهار فرنسا أمام جحافل هتلر، ولكن لحظة التحول فى الدراما عندما ينحاز الملك جورج السادس لفكرة المواجهة العسكرية، ويساند تشرشل بعد أن كان خائفا منه.

ثم تأتى المساندة الأقوى من الشعب ممثلا فى ركاب المترو الذين يلتقيهم تشرشل، ابن الطبقة الأرستقراطية، الذى لم يقف فى طابور، ولم يركب أوتوبيسا فى حياته، هؤلاء سيجعلون لبلاغة الزعيم معنى برفضهم الاستسلام لهتلر، للعظمة البريطانية ثلاثة أجنحة: زعيم سياسى، وملك بمثابة رمز، وشعب لا يعرف اليأس، هذا هو الفيلم الفذ، وهذه هى أحلك ساعة التى حولتها الديمقراطية بممثليها (العموم واللوردات) إلى ساعة اكتشاف وتنوير لقدرات الجميع.

لدينا كل عناصر الدراما فى أفضل صورها، وكأننا أمام نص شيكسبيرى: تشرشل بروحه الساخرة وإرادته الصلبة، بلحظات قوته وضعفه وتشككه، وبأداء مذهل من جارى أولدمان، زوجته كليمنتين بصبرها وقوتها وحبها لزوجها، وبأداء رصين من كريستين سكوت توماس، وفريق رائع من الممثلين، حتى فى أدوار شخصيات المترو الواثقة، ومخرج مميز للغاية هو جون رايت (صاحب أفلام «الكبرياء والتحامل» و«الغفران»)، أعاد بعث المكان والزمان والشخصيات والمعنى والحالة، سواء فى مشاهد فردية مدهشة تتنوع فيها التعبيرات؛ مثل مشهد مكالمة تشرشل مع روزفلت، أو فى المشاهد الجماعية الملحمية والحماسية (خطب ومناظرات البرلمان)، مع استخدام بديع للمونتاج والموسيقى، كأن تتداخل خطبة تشرشل مع لقطات كتابة الخطبة على الآلة الكاتبة.

ولا أنسى تصرفات المخرج البليغة التى تعبر عن مأزق تشرشل بتكرار وضعه فى إطار أسود، بل النظر إلى طائرة تشرشل فى أثناء زيارته لفرنسا من خلال كفين متشابكين لصبى صغير، وحركة الكاميرا الطائرة ابتعادا عن القائد البريطانى المحاصر فى كاليه حتى الموت، ونفس الحركة ابتعادا عن تشرشل، وكأنه فى نفس المأزق، طابع الصورة كله هو الأبيض والأسود والرمادى أحيانا عندما تنفرج الأمور نسبيا، والنور الأبيض يتسلل فى حزم خجولة سواء فى جلسات البرلمان، أو فى اجتماعات مجلس الحرب، ثم هذا التوازن الدقيق بين سخرية تشرشل وجديته، وهى ليست سخرية مجانية، وإنما تعبير عن روح الشعب، الذى يرتدى أطفاله أقنعة تمثل وجه هتلر فى الشوارع والذى يعمل ويجادل ويحب وينظم حياته فى أصعب الأوقات.

يظهر تشرشل لأول مرة فى الفيلم من قلب الظلام وقد أضاء الكبريت سيجاره وهو يدخن، ثم ينطفئ الكبريت فتضىء سكرتيرته (ممثلة الشعب أيضا) نور الحجرة، وينتهى الفيلم وتشرشل يحمل الكبريت الذى منحه إياه رجل المترو ابن الشعب، فأضاء به قرار رئيس الوزراء الحاسم بالمقاومة، لم تعد خطبة النهاية انتصارا فارغا للغة الإنجليزية كما يقول اللورد هاليفاكس، صارت قوة انتصار قادمة، ذلك أن الشعوب وحدها هى التى تجعل لكلمات السياسيين معنى على أرض الواقع، الشعب هو الذى ألهم تشرشل، وهو الذى سيسقطه فى الانتخابات بعد الحرب التى انتصر فيها.
محمود عبد الشكور كاتب وناقد سينمائي وأدبي مصري
التعليقات