وسط أوروبا يعود مصدرًا للقلق - جميل مطر - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 8:15 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

وسط أوروبا يعود مصدرًا للقلق

نشر فى : الأربعاء 17 أكتوبر 2018 - 11:05 م | آخر تحديث : الأربعاء 17 أكتوبر 2018 - 11:05 م


«ما أن تأتى سيرة وسط وشرق أوروبا إلا وأسرعت أتصفح موسوعتى التاريخية». عبارة سمعت أستاذا للتاريخ السياسى يفتتح بها التعقيب على مداخلة من باحث مرموق. أعرف أنه كان يوجد جيل من علماء السياسة متأثر بنظرية توازن القوى والعوامل الجيوستراتيجية كأدوات فهم وتحليل العلاقات الدولية واستطلاع مستقبلها. كان بين هؤلاء من اعتقد بكل الإيمان الأكاديمى الممكن فى الرأى القائل بأن من يتحكم فى منطقة وسط أوروبا سوف يسيطر على العالم. أتصور أن شيئا من هذا الإيمان تسرب من جديد إلى معلقين يميلون إلى وضع الاهتمام الصينى الراهن بمنطقة وسط وشرق أوروبا ضمن موروث علم السياسة الغربى كما خلفه محاضرون غربيون فى أذهان تلاميذهم الصينيين قبل انتصار الثورة الشيوعية. شيء مماثل أتصوره يحدث منذ أن عدت أسمع أساتذة غربيين يبررون الإصرار الروسى المتجدد على استعادة السيطرة على المنطقة مستخدمين فى تبريراتهم أدوات الجغرافيا السياسية ونظريات القوة التى كانت سائدة بشكل خاص فى سنوات ما قبل الحرب العالمية الأولى وسنوات ما بين الحربين.
***
جاءت سيرة هذه المرحلة من تاريخ الصراع على وسط أوروبا، كما ورد فى كتابات أساتذة العلاقات الدولية خلال أمسية جمعت أصدقاء مشارقة ومصريين اجتمعوا لمناقشة صعود اليمين اللافت للنظر فى أمريكا اللاتينية. كان الرأى الغالب يميل إلى عدم المبالغة فى الاهتمام بالظاهرة، فالعالم بأسره يبدو متوجها نحو اليمين. حتى الدول التى اختارت فى العقود الماضية نظاما وحزم سياسات يمينية وترتيبة طبقية محافظة هى نفسها عادت فى السنوات الأخيرة فاختارت أن تزداد غوصا فى يمين أشد يمينية من كل ما عرفته عن اليمين فى تاريخها الحديث. فى الواقع كان الاهتمام نابعا من حجم التركيز الأيديولوجى والإعلامى والدولى الذى حظيت به مرحلة كادت تنقضى. أقصد تحديدا مرحلة الانتقال من حالة يمينية ديكتاتورية هيمنت طويلا على عدد كبير من دول أمريكا اللاتينية، ومرحلة انتقال من حالة يسارية، وإن متشققة، هيمنت هى الأخرى طويلا على عدد كبير من دول شرق ووسط أوروبا. الانتقال فى الحالتين كان للتأسيس لمرحلة جديدة من الديمقراطية وصياغات ليبرالية.
***
لا تغيب عن ذاكرتى الأجواء الاحتفالية فى مختلف دوائر السياسة والبحث العلمى بمناسبة انطلاق ما عرف بفكر الانتقال فى علم السياسة وعلوم المجتمع. راح بعضنا يقترح شروطا لانتقال معافى وسليم. راح بعض آخر يفلسف أسباب تخلف دول عن المشاركة فى محاولات الانتقال وأسباب إقدام دول أخرى. انشغلنا بكل صغيرة وكبيرة وقعت فى تشيلى والأرجنتين والبرازيل، انشغلنا بكل انتخابات جرت فى الإكوادور وكل هبة ومظاهرة فى نيكاراجوا وبيرو وبكل انقلاب فاشل، بل أذكر أننا خصصنا مساعدين يتابعون التغيرات التى أدخلتها دول القارة على أنظمة أمنها الداخلى وبرامج إصلاحها، وفى صدارتها تدريس قوانين الحقوق الإنسانية لطلبة الكليات الأمنية. رأينا أجهزة العدالة فى الأرجنتين والبرازيل تنتفض لتحاكم مسئولين أساءوا إلى سلامة مواطنين أو أهملوا فى حقوقهم. رأينا أجهزة إعلام تتحرر فى اتزان من قيود فرضتها عليها حكومات متطرفة فى هيمنتها. رأينا نشاطا غير مألوف يلف أنحاء المجتمع يفرز أفضل عناصره ليقود قطاعات مدنية نحو تعليم أفضل وأخلاق أحسن وتعايش أقوى وحب للوطن. كانت المرحلة، فى عرف بعض المتخصصين، مرحلة ثورية تستحق أن تدرس فى المعاهد والجامعات باعتبارها مرحلة عزم وإصرار على الانتقال بالطرق السلمية من أنظمة غير ديموقراطية أو غير ليبرالية نحو أنظمة ديمقراطية وليبرالية.
***
ما إن سقطت دعائم الحرب الباردة حتى تكثفت جهود محلية وخارجية تسعى لبناء أنظمة حكم ديموقراطية وليبرالية محل أنظمة الحكم الشيوعية المهددة بالسقوط إن آجلا أم عاجلا. نشبت ثورات ملونة فى معظم دول شرق ووسط أوروبا التى خضعت للحكم الديكتاتورى الذى فرضته روسيا، أو شجعت على فرضه على شعوبها. قامت فى هذه الدول على أكتاف الثورات الملونة حكومات التزمت أمام شعوبها والاتحاد الأوروبى وحلف الأطلسى الأخذ بالديمقراطية أسلوب حكم وبالليبرالية منهاج سلوك وتحضر. لم يكن خافيا أن حلم الانضمام للاتحاد الأوروبى والرغبة فى اكتساب حماية الأطلسى كانا فى صدارة حوافز الاندفاع نحو إعلان الاستعداد لاقتحام المرحلة الانتقالية. ظهرت أحزاب بالسرعة الواجبة وانتشرت منظمات المجتمع المدنى وانفتحت الحدود ليهاجر ملايين السكان إلى دول غرب وجنوب أوروبا حيث فرص العمل والاستقرار المالى والانتعاش الاقتصادى.

***

مرت السنوات وأظن أنها كافية لتسمح لنا بأن نبدى رأيا قاطعا فى حصيلة المرحلة الانتقالية التى جرت فاعلياتها فى القارتين. أنا شخصيا لا أستطيع تجاهل بعض الحقائق الدامغة التى تثبت أن المرحلة الانتقالية كانت فى الواقع فرصة وضاعت. أولا، لا أتجاهل حقيقة أن الفساد عاد يسيطر ويهيمن على جميع مناحى الحياة فى كل أو أغلب الدول التى أجرت عملية انتقال. بل إن الفساد صار يمس فى بعض البلدان قواعد اجتماعية اشتهرت قبل المرحلة الانتقالية بمقاومة الفساد، أقصد بالتحديد النقابات والكنيسة.
ثانيا، لا أتجاهل السقوط المروع للطبقة السياسية فى عدد متزايد من الدول المتقدمة على صعيد مقياس الديمقراطية الليبرالية وعلى رأسها الولايات المتحدة. من ناحية أخرى كان واضحا أن الطبقة التى كانت تحكم وتسيطر اقتصاديا قبل بدء المرحلة الانتقالية استمرت تحكم بشكل أو بآخر وتهيمن خلال المرحلة الانتقالية. لذلك لم يكن مفاجئا بشدة إن كانت هذه الفئة هى نفسها التى قادت التيار الشعبوى وقيدت الحركة الديمقراطية وأسقطت الممارسة الليبرالية فى عدد من الدول الانتقالية.
ثالثا، لا أقلل من أهمية عنصر تاريخى تدخل بشكل مكثف للتأثير فى كفاءة العملية الانتقالية نحو الديمقراطية والليبرالية. أقصد التطور المفاجئ فى الحركة السكانية فى أمريكا الجنوبية فى اتجاه المكسيك وأمريكا الشمالية، وكذلك فى أوروبا حيث انطلقت نسبة ليست بسيطة من شباب متعلم من وسط وشرق أوروبا نحو الغرب بحثا عن وظائف، تاركا ساحات العمل السياسى لأشخاص تدربوا على كراهية الديمقراطية والليبرالية. كذلك لا نغفل تأثير الهجرات الواسعة وغير المسبوقة حجما ونوعا التى هبطت على أوروبا من آسيا وأفريقيا.
رابعا، لا أهمل حقيقة أن أزمة مالية هائلة وقعت فى عامى 2007 و 2008 تركت العالم الرأسمالى فى حال سيئة ما زال ممسكا بخناقه إلى يومنا هذا، أضف نتائج هذه الأزمة إلى مجموعات من سلبيات العولمة التى نكتشف اليوم على أيدى الرئيس دونالد ترامب كم هى بالغة الأثر فى أحوال أمم عديدة ومنها الولايات المتحدة نفسها.
خامسا، لا أنكر، ولكنى لا أعلم بالدقة الكافية، حجم التأثير الذى طاول سلبيا عمليات الانتقال نحو الليبرالية نتيجة النشاط التجارى والاستثمارى الصينى فى وسط أوروبا وإلى حد ربما أقل فى أمريكا اللاتينية. تصلنا معلومات من جهات غربية عن تخريب أصاب اقتصادات فى إفريقيا وآسيا بسبب هذا النشاط، كما أن هناك من يثير قضية الأثر الأيديولوجى للنموذج الصينى المعادى للديمقراطية الليبرالية.

***

على ضوء هذا التحليل وتحليلات مشابهة يصعب الاطمئنان إلى مستقبل تسود فيه تفاعلات دولية هادئة. ففى المنطقتين، أمريكا الجنوبية ووسط أوروبا، كما فى الشرق الأوسط، تنشأ بفضل فشل التنمية السياسية فراغات تنتظر لتملأها قوى خارجية، وأخرى داخلية، نراها تأهبت وباتت مستعدة لرسم خرائط سياسية جديدة فى أماكن متفرقة من العالم.

جميل مطر كاتب ومحلل سياسي