لماذا نجح ثروت عكاشة؟ - عبد الله السناوي - بوابة الشروق
الأربعاء 24 أبريل 2024 3:19 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

لماذا نجح ثروت عكاشة؟

نشر فى : الأحد 16 ديسمبر 2018 - 11:40 م | آخر تحديث : الأحد 16 ديسمبر 2018 - 11:40 م

لم يكن «ثروت عكاشة»، الرجل الذى ارتبط اسمه بأوسع عملية بناء ثقافى فى التاريخ المصرى الحديث، مقتنعا ومتحمسا لإسناد مسئولية الثقافة إليه خشية الصدام مع «شلل وتجمعات همها ألا يزاحمها فى سلطانها أحد».
أعرب عن خشيته للرئيس «جمال عبدالناصر» فى حوار كاشف امتد لأربع ساعات تضمنه كتابه «مذكراتى فى السياسة والثقافة».
لا مشروع ثقافى، أو غير ثقافى، يمكنه أن يبنى ويصوغ خارج ما يحيط به من تعقيدات سياسية وصراعات مكتومة على القوة والنفوذ، غير أن المهمة استدعت الهمة وتجاوزت أية تعقيدات ماثلة.
«أنت تعرف أن مصر الآن كالحقل البكر، وعلينا أن نعزق تربتها ونقلبها ونسويها ونغرس فيها بذورا جديدة لتنبت لنا أجيالا تؤمن بحقها فى الحياة والحرية والمساواة، فهذا هو العناء، وهذا هو العمل الجاد على نحو ما ذكر فرجيل فى إنيادته، وإننى اليوم أدعوك أن تُقبل على هذا العناء وذاك العمل الجاد، وأن تشمر عن ساعد الجد وتشاركنى فى عزق الأرض القاحلة وإخصابها، إن مهمتك هى تمهيد المناخ اللازم لإعادة صياغة الوجدان المصرى، واعترف أن هذه أشق المهام وأصعبها، وأن بناء آلاف المصانع أمر يهون إلى جانب الإسهام فى بناء الإنسان نفسه».
«أخذ الرئيس يذكرنى بأننى لم أكن أغادر القاهرة فى مهمة سياسية خاصة إلا وأعود بحديث مقتضب عن المهمة تاركا التفاصيل للتقرير المكتوب، بينما كنت أطنب فى الحديث عن النهضة الفنية فى الخارج، وعما شاهدت من عروض مسرحية وموسيقية وأوبرالية ومن معارض فنية تشكيلية وعن أحدث الإنشاءات الثقافية، وعن أمنيتى فى أن تتحقق مثل هذه النهضة فى مصر». «لا أخفى عليك أن كل حديث كان يدور حول تنمية الثقافة والفنون كان يجعل صورتك تتراءى فى خيالى، وأذكر حديثنا قبل الثورة عن انحصار المتعة الثقافية وبخاصة الفنون الراقية فى رقعة ضيقة لا تنفسح إلا للأثرياء، وكيف ينبغى أن تصبح الثقافة فى متناول الجماهير العريضة، وأن تخرج من أسوار القاهرة والإسكندرية لتبلغ القرى والنجوع، فمن بين أبناء هذه القرى الغائرة فى أعماق الريف بالدلتا والصعيد يمكن أن يبزغ عدد من الفنانين الذين يعكسون فى إبداعهم أصالتهم الحضارية. ويبدو لى أن الأوان قد آن لتحقيق هذا المطمح، وقد كنت أنتظر هذه اللحظة لأسند إليك مهمة وزير الثقافة».
صادف اختيار «ثروت عكاشة» أهله، فقد كان مهيأ أكثر من غيره، رغم خلفيته العسكرية، لتولى هذا المنصب، فهو أحد الموسوعيين الكبار فى الفنون والثقافة.
فى تجربة «يوليو» قضايا وتعقيدات متداخلة بين العسكريين والمثقفين تستحق التوقف عندها بالبحث والدرس.
أولها التنشئة العسكرية لـ«جمال عبدالناصر» ورفاقه ودورها لا يمكن استبعاده، أو غض الطرف عنه، فى تكوين شخصياتهم من حيث احترام التسلسل القيادى والتزام قواعد الانضباط.
أساسيات العمل العسكرى تختلف من حيث طبيعتها مع ما درج عليه العمل الثقافى من تنوع وتقبل للخلاف فى الرأى كقيمة بذاتها.
تناقض طبيعة العملين أسس أحيانا إلى صدامات مكتومة أو معلنة.
وثانيها أن «الضباط الأحرار» لم يكونوا على ذات درجة الثقافة والمعرفة والقدرة على التذوق الفنى.
بعضهم طور نفسه ثقافيا وفكريا بقدر ما قرأ وحاور، وأكسبته خبرة الدولة قدرات إضافية، ونجح فيما أسند إليه من مهام جسيمة.
وبعضهم الآخر غابت عنه أية نظرة ثقافية متصورا أن الضبط والربط وحده يكفى لإدارة الدولة وإنجاز التكليفات، وكان عبئا على المناصب التى تولاها.
التعميم، حيث يجب التخصيص، خطأ بالغ فى تقدير أوزان الرجال.
بنص الحوار الكاشف بين «عبدالناصر» و«عكاشة» فإننا أمام اثنين من المثقفين، كلاهما أخذ وقته، حسب ظروفه فى التراكم المعرفى، وكلاهما لديه تصورات وأحلام لإعادة صياغة الحياة من جديد.
لم تنشأ «الثورة الثقافية» من فراغ، ولا طرأت بالمصادفة.
التصورات سبقت الإجراءات والأحلام حلقت بين رجلين.
هكذا اتسعت مساحة القراءة العامة بما هو جدير بالاطلاع عليه من فكر وأدب وإبداع لكتاب مصريين.
ازدهرت حركة الترجمة لإتاحة ما ينشر من فكر حديث فى الغرب أمام القارئ بأرخص الأسعار.
نشأ جيل من المسرحيين العظام مثل «يوسف إدريس» و«سعد الدين وهبة» و«ألفريد فرج» و«محمود دياب» و«ميخائيل رومان» و«نعمان عاشور».
أنشئت أكاديمية الفنون بالهرم وأرسلت بعثات إلى عواصم أوروبية، خاصة موسكو، لتعلم الموسيقى الكلاسيكية وفن الباليه والمسرح.
انتشرت قصور الثقافة فى كل المدن، كأنها تلاحق التوسع فى إنشاء المدارس والمستشفيات العامة.
نهضت حركة الفن التشكيلية وشهدت الأغنية الوطنية عصرها الذهبى ورد الاعتبار إلى الغناء الشعبى على يد «زكريا الحجاوى».
وكان صعود فن الرقص الشعبى فى تجربتى «فرقة رضا» و«الفرقة القومية للفنون الشعبية» علامة على نوع التجديد الثقافى، الذى زاوج بين الفنون الحديثة والفنون الشعبية.
أهم ما انطوت عليه «الثورة الثقافية» إتاحة حرية النقد والاختلاف.
إذا تقوضت حرية التفكير بالمطاردة وحرية الإبداع بالمصادرة فالتدهور العام لا فكاك منه.
لا إبداع يتأسس على تعليمات بما يكتب أو لا يكتب.
كانت تلك مفارقة فى تجربة «يوليو»؛ حيث سمح فى الإبداع القصصى والمسرحى بما لم يكن مسموحا به على صفحات الجرائد وشاشات التليفزيون من نقد.
لم يمنع حق عن أديب اختلف، ولا صودرت رواية انتقدت.
نشرت رواية «نجيب محفوظ» «أولاد حارتنا» كاملة على صفحات «الأهرام»، رغم الزوابع التى أثارتها.
ونشرت فى وقته وحينه روايات أخرى له انتقدت دون مواربة أوجه خلل عديدة فى النظام الناصرى.
سمح بعرض الشريط السينمائى «شىء من الخوف» عن رواية بالاسم نفسه لـ«ثروت أباظة»، رغم الاعتراضات الرقابية التى تصورت أن «فؤادة» هى مصر و«عتريس» هو «عبدالناصر» وأن الزواج بينهما باطل.
لم يوافق «عبدالناصر» على الاعتراضات الرقابية فـ«نحن لسنا عصابة وإذا كنا كذلك لا نستحق أن نحكم أو نبقى».
على ذلك المنوال اتسعت مساحة النقد وحريات التعبير فى المجال الثقافى.
حدثت مضايقات متكررة من سلطات رقابية، أو أمنية، اشتكى منها مبدعون، أغلبهم موالون للثورة، لكنها وجدت فى النهاية استجابات فى مركز القرار.
كان ذلك تعبيرا عن الصراع بين انفتاح ثقافى على حرية النقد وخشية أمن من تبعاته.
بقدر وضوح المشروع أتيحت لتجربة «ثروت عكاشة» نجاحا كبيرا أضفى على «يوليو» إلهاما ثقافيا يضارع ما أنجزته فى تجربتها الاجتماعية، وكان خلل بنيتها السياسية كعب أخيل الذى نفذت منه كل السهام.