خطاب توصية - نيفين مسعد - بوابة الشروق
الخميس 25 أبريل 2024 1:26 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

خطاب توصية

نشر فى : الجمعة 16 نوفمبر 2018 - 12:05 ص | آخر تحديث : الجمعة 16 نوفمبر 2018 - 12:05 ص

مد لقمان يده بخطاب توصية مكتوب باللغة الإنجليزية إلى أستاذه السابق في الجامعة وطلب منه توقيعه. كانت قد مضت عدة سنوات لم ير فيها الأستاذ طالبه القديم لكنه مع ذلك تذكره فور أن دخل عليه مكتبه، هذا الأمر قليلا ما يحدث معه أما الشيء العادي بالنسبة له فهو أن يصادف طلابه القدامى فيذكر وجوههم دون أسمائهم.. السن والمشاغل والأسرة الكبيرة التي كوّنها من الطلاب على مدار السنين مبررات منطقية جدا للنسيان، فكان حين يقابل طلابا سابقين يلجأ للحيلة المعروفة ويبنيهم للمجهول، يتجنب أن يستخدم معهم ضمير المخاطَب "يا" ويكثر من أهلا ويمطها طويلا أهلاااااااااا ليوحي أنه يذكر أسماءهم مع أنه لا يذكرها. أما هذه المرة فكان الأمر مختلفا، فما أن رأى هذا الطالب يدخل عليه حتى صاح قائلا "لقمان.. عاش من شافك". شيئان جعلا من لقمان حالة خاصة بالنسبة للأستاذ، الشيء الأول هو اسمه فلعله لم يصادف على مدار سنين عمله الطويلة بالجامعة طالبا اسمه لقمان، أما الشيء الثاني فكان يتعلق بالشخصية المميزة للقمان، والتميز ليس صفة إيجابية بالضرورة، ومعه هو بالذات لم يكن كذلك البتة .

***

يستحضر الأستاذ أول مرة تعرف فيها على لقمان قبل نحو سبع سنوات، كان منهمكا أثناء المحاضرة في شرح المنهج التفكيكي لچاك ديريدا، وبينما هو يصول ويجول ويأتي بحركات تمثيلية من تلك التي تُعجِب الطلاب، وقع نظره على طالب يجلس في الصف الثاني ويبتسم ابتسامة ساحرة مطالعا الموبايل باهتمام، أحس الأستاذ بدش بارد ينزل على رأسه فقطع المحاضرة وقال: الطالب الذي يرتدي تيشيرتا أسود ويجلس في ثاني صف .. اسمك إيه؟ فانتبه صاحبنا وأجاب المحاضر مستظرفا: اسمي لقمان تيمنا بلقمان الحكيم.. توسّم أهلي فيّ الحكمة فأسموني لقمانا.. هئ هئ هئ. هكذا؟ علّق الأستاذ مستفهما بعد أن بدا له رد الطالب مستفزاً ثم أتبع سؤاله الأول بسؤال ثان: وهل من الحكمة يا لقمان أن تتشاغل عن المحاضرة بالموبايل؟ ران الصمت على الجميع، واحتاج الأستاذ بضع ثوان ليرتب أفكاره مجددا ويستعيد لياقته الذهنية ثم انطلق شارحا: لا يعترف المنهج التفكيكي بالمطلقات فالأصل عنده هو التعدد.

***

توالت بعد ذلك المواقف بين الأستاذ والطالب لتعزز من الانطباع الأول عن لقمان، الانطباع عنه بأنه شخص مغرور غير منضبط ولا يتعاون مع زملائه، فما قسّم الأستاذ طلابه إلى مجموعات حتى احتار أين يضع لقمان فلا زملاؤه يريدونه في مجموعاتهم ولا هو يرحب بأن يدخل في أي مجموعة فهو يعتبر نفسه مجموعة قائمة بذاتها، ودون التدخل المباشر من الأستاذ لترويض الرفض من الجانبين ما كانت الأمور تسير أبدا، وبعض التسلط قد يكون مطلوبا. بعد أن انقضى العام الدراسي انقطعت عن الأستاذ أخبار لقمان، تصور أنه نساه تماما وأنه أخلى مكانه في الذاكرة لتفاصيل أخرى تتعلق بدفعات جديدة وبطلاب آخرين، لكن ها هو يقف أمامه طالبا خطاب توصية فلماذا اختاره هو بالذات لهذه المهمة؟ هل سعى لقمان لأساتذة آخرين ولم يتجاوبوا معه؟ هل يحتفظ لقمان بأي ذكرى إيجابية عن الأستاذ؟ بدا الاحتمال الثاني ضعيفا، في كل الأحوال لم يبتلع الأستاذ أسلوب التوصية الجاهزة للتوقيع وكأن لقمان يقول له: وقّع ما يُملي عليك، لكن من حيث الملاءمة فإن هذا الأسلوب يتلاءم تماما مع شخصية لقمان.

***

جرى الأستاذ بعينيه سريعا على سطور التوصية فوجدها ما شاء الله زاخرة بكل استخدامات أفعل التفضيل، وأن عليه رغم علاقته القصيرة - وفي الواقع السلبية أيضا- بطالبه السابق أن يشهد له بأنه كان الأذكى والأنبه والأكثر مبادرة ونشاطا وانضباطا و...... استعدادا للعمل الجماعي. يا لجرأتك يا لقمان!! اعتاد الأستاذ أن يجامل طلابه السابقين بتوصيات فيها درجة ما من الأريحية في التقييم قائلا لنفسه إننا في النهاية لا نزن معادن نفيسة بل قدرات ومهارات وفي مثل هذه الموازين يجوز الاختلاف، نعم هذا يحدث لكنه مختلف عن حالة لقمان فالمعروض عليه في هذه اللحظة هو عبارة عن شهادة زور متكاملة الأركان، وكله كوم ومسألة الانضباط والعمل الجماعي هذه كوم ثان. لم يكن أسهل على الأستاذ من أن يفنّد كل جملة قرأها في التوصية وتكون هذه فرصة يلقن فيها لقمان درسا قاسيا لكنه لا يفضّل أبدا معالجة الأمور على هذا النحو، وبالتالي فإن عليه أن يفكّر في مدخل يحقق الغرض المطلوب ويجنبه المصارحة الجارحة مع طالبه السابق.

***

فتح الأستاذ درج مكتبه وأخرج علبة بونبون يستخدمها حين لا يتاح عامل البوفيه وقدّم منها لضيفه، عاد بمقعده إلى الوراء وأسنده للحائط وعقله عبارة عن ماكينة تعمل بسرعة فائقة، ثبّت عينيه في عينيّ الشاب وسأله: ذكّرني لماذا اختار لك الأهل اسم لقمان؟ انتفخت أوداج لقمان وأجابه في زهو يجيد التعبير عنه: سيادتك تيمنا بحكمته. ممتاز علّق الأستاذ.. اعتدل في جلسته وتريث لثوان ثم مد يده بالتوصية لمحدثّه قائلا بلهجة حاسمة: وأنا أيضا أتيمن بها!

نيفين مسعد أستاذة بكليّة الاقتصاد والعلوم السياسيّة جامعة القاهرة. عضو حاليّ فى المجلس القوميّ لحقوق الإنسان. شغلت سابقاً منصب وكيلة معهد البحوث والدراسات العربيّة ثمّ مديرته. وهي أيضاً عضو سابق فى المجلس القوميّ للمرأة. حائزة على درجتي الماجستير والدكتوراه من كليّة الاقتصاد والعلوم السياسيّة – جامعة القاهرة، ومتخصّصة فى فرع السياسة المقارنة وبشكلٍ أخصّ في النظم السياسيّة العربيّة. عضو اللجنة التنفيذية ومجلس أمناء مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت. عضو لجنة الاقتصاد والعلوم السياسية بالمجلس الأعلى للثقافة. عضو الهيئة الاستشارية بمجلات المستقبل العربي والسياسة الدولية والديمقراطية
التعليقات