«حروب الرحماء».. رواية معاصرة جدًا - محمود عبد الشكور - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 12:59 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

«حروب الرحماء».. رواية معاصرة جدًا

نشر فى : الجمعة 16 نوفمبر 2018 - 12:00 ص | آخر تحديث : الجمعة 16 نوفمبر 2018 - 12:00 ص

عندما نشر إبراهيم عيسى الجزء الأول من «رحلة الدم» (دار الكرمة)، وصفتُ الرواية الكبيرة بأنها «تراجيديا قوية ومؤثرة»، ومع صدور الجزء الثانى عن الدار ذاتها، هذا العام، «حروب الرحماء»، يتأكد عندى تمامًا أن هذا العمل من أفضل ما كتب عيسى فى الرواية، ذلك أنه فطن إلى التراجيديا فى وقائع التاريخ وشخصياته، التى عاشت سنوات الفتنة الكبرى، وأنه نجح بامتياز فى رصدها من مقتل عثمان إلى مقتل على بن أبى طالب.
بل نجح فيما هو أهم وأعمق، وهو ربط تراجيديا الأمس الناشئة عن خلط الدين بالسياسة، وتصدّر أصحاب المطامع والآفاق الضيقة للسلطة والصورة، واختلاط الحق بالباطل، بما نراه اليوم من استغلال للدين فى القتل والاستحلال، فكاننا أمام رواية تاريخية معاصرة جدًا، تسقط حكايتها على الحاضر، وكأن الماضى يتكرر بتنويعات أخرى فى قلب المعاصر والآنى، ذلك أننا نقرأ التاريخ دون أن نفهمه، أو نستفيد منه.
لا توجد شخصية ولا واقعة غير حقيقية، أو لا نجد أصلها فى مراجع التاريخ، ومع ذلك فإننا أمام رواية ممتازة، أبطالها شخصيات تاريخية، ولكنهم شخصيات روائية أيضًا؛ أى ينتظمون بناء محكمًا، ويخضعون لمنطق الرواية فى السرد، والاختزال، والتكثيف، وبناء الحبكة، وضبط الصراع، ويخضعون لما هو أهم؛ البناء النفسى الداخلى المعقّد الذى لا تذكره كتب المؤرخين.
ينتظم السردَ منهجٌ واضحٌ وقوى، يزن الشخصيات بأفعالها، دون أن يتجاهل بشريتها ونقاط ضعفها، وهو بناء تراجيدى بالأساس، إذ يذكرنا حصار عثمان ثم قتله (الجزء الأول)، وانفضاض بعض أنصار علىّ عنه إثر قبوله التحكيم (الجزء الثانى)، ونبل الرجلين رغم نهايتهما، ورغم أخطائهما، بأفضل نماذج الشخصيات النبيلة فى الدراما الإغريقية، تلك التى ترتكب خطأ يودى بها، وتبدو مُسيّرة إلى مصير محتوم، لا تستطيع أن تتراجع عن موقفها، ولا يمكنها أبدًا أن تنجح أو تنتصر.
إننا أمام عمل فنّى مادتُه التاريخ، وليس سردًا تاريخيا مملًا، حتى من يعرف تلك الوقائع، لن يترك الرواية حتى يفرغ من قراءتها، متشوقًا ومتأملًا، مثلما كان الجزء الأول، تتحرى الرواية التاريخية الوقائع، ولكنها تجعلنا نراها بشكل جديد، وبطريقة معاصرة، تمنحنا مسافة للتأمل، تعيد تحليل مكونات الشخصية، فتفصل، مثلًا، بين فروسية الإمام علىّ وتقواه، وبين الطريقة التى أدار بها حربه، ضد عدو يعرف السياسة بوصفها فن الخداع والخسة، تجعلنا نتأمل الضعف الإنسانى، وتقيم صراعًا داخل الشخصيات، لا يقل أهمية عن الصراع الدموى على الأرض، الذى تفنن عيسى فى وصفه وتجسيمه، فكأن أشلاء الأمس، تذكرنا بأشلاء اليوم، وكأن تكفير المسلمين لبعضهم بدعة شنيعة، تتخفى فى ثوب الفتنة، وتلبس فى كل عصر ثوبًا.
وكأن ضيق أفق حفاظ القرآن الذين خرج منهم قتلة عثمان وعلىّ، يكشف لنا خطورة أن يلغى الإنسان عقله، ويذكرنا بأن بيننا الآن مثل قتلة عثمان وعلىّ، فى التزمت وضيق الأفق واحتكار الإيمان والإسلام، الشيطان فى الرواية يكمن فى التفاصيل، وفى النفوس أيضًا، والسلطة أمس واليوم وغدًا إغواء خارق، يندر ألا يتلوث الإنسان فى سبيل طلبها، أو ممارستها.
بدأ الجزء الأول بقتل علىّ بن أبى طالب، ثم عاد عيسى عشرين عامًا لتتبع حياة قاتله عبدالرحمن بن ملجم، وفى الجزء الثانى يتكرر التكنيك ذاته؛ إذ نرى عبدالرحمن محبوسًا بعد قتل علىّ، ثم نعود خمس سنوات، لنكتشف أنه بايع علىّ، وشهد مواقعه، ثم تغيّر وتحوّل.
ينتهى الجزء الأول بقتل عثمان، وينتهى الجزء الثانى بخسارة علىّ للتحكيم، وتمدد نفوذ معاوية وعمرو بن العاص، ينتصر الموت والدم فى الجزءين، ولكن الدائرة تنفتح إلى الأبد حتى اليوم، ما زالت المصاحف مرفوعة لأسباب سياسية، ما زال المسلمون يتقاتلون من أجل السلطة، وما زال التكفيرُ سيفًا على رقاب الجميع.
«حروب الرحماء»، مثل «رحلة الدم»، روايتان بديعتان تختبران المثالية فى مواجهة الواقع، وتفصلان ببراعة بين الدين والمصحف، وبين فهم المسلمين لهما؛ روايتان عن تعقيد الطبيعة الإنسانية، وتقلبها، وهو أمر أبعد غورًا، وأعظم منالًا، من كتب التاريخ، وكتابات المؤرخين، ثم إن الفتنة التى يحكيها عيسى ما زالت تنفثُ سمومها حتى اليوم!

محمود عبد الشكور كاتب وناقد سينمائي وأدبي مصري
التعليقات