مِن فضلِك؛ جريدة - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الثلاثاء 23 أبريل 2024 9:04 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

مِن فضلِك؛ جريدة

نشر فى : الجمعة 15 ديسمبر 2017 - 9:40 م | آخر تحديث : الجمعة 15 ديسمبر 2017 - 9:40 م
سائرةً على قدمَيّ بنشاط فى شوارع مصر الجديدة، حاملةً صحفَ اليوم كأنها وليمة، رحت أقطع مسافة لا تتعدى الكيلومتر الواحد، قاصدة بيت العائلة القديم، كعادتى فى أيام الجمعة. صادفت خلال الرحلة القصيرة نساءً عدة، وجوهُهن مألوفة طيبة، بعضُهن أتين ليتحلَّقن حول المسجد القريب، مِنهن مَن حملن الخضروات الطازجة لبيعها فور خروج المُصلين، وبعضهن جلبن الفواكه للغرض ذاته، وأُخريات جلسن أرضًا؛ ينتظرن ما يجود به عابر سبيل.

***

استوقفتنى امرأةٌ مُستديرة الوجه، فى أواسط العمر؛ تشير إلى الصحف المَطوية فى يدى، وتسألنى واحدة. قلت مُبتسِمة إنها ليست قديمة، بل اشتريتها حالًا مِن البائع القريب. نظرت إليّ فى أسف، وأطالت النظر فى الصُحُف؛ تشتهيها، ثم أدارت وجهها ومَضت إلى مَسعاها. بعد أمتار قليلة لوَّحت لى أخرى، مُتربّعةً فَوقَ حجر ضخم إلى جانبه صرة كبيرة، وكررت السؤالَ ذاته، وكأنها تلقفته من فم سالفتها؛ فكررت بدورى الإجابة.

***

صدفة غريبة أن ألتقى ذاك اليوم، وخلال الدقائق المعدودات التى تستغرقها رحلتى، بأكثر مِن امرأةٍ، يتماثلن فى رقّة المَظهر، وتواضُع الحال، ويتشاركن طلبًا واحدًا: ممكن جرنان؟ 

***

لم تطلب إحداهن مثلًا أن تُلقى نظرة، أو تبحث عن عنوان، أو تتحصَّل على مُلحق مِن مَلاحِق الأهرام كما يفعل المتمرسون بالقراءة. لا تُمثِّل الصحيفةُ لهؤلاء النساء، على الأغلب، طقسًا مِن الطقوس ”الثقافية“ اللاتى يحرصن عليها صباح كُلّ يوم، ولا هى قناةٌ مِن القنوات التى يستقين عبرها المعلومات. لا تعنى الصحيفةُ للمرأة ذات القسمات التعِبة المُنهَكة، المُتَّشِحة بجلباب شعبيّ أسود، وطرحة رأسٍ طويلة أثقلتها أتربة الطريق؛ أى شيء يتعلق بالأنباءِ المُتلاحِقة والأحداثِ المُشتعِلة. لا تعنى مَصدرًا مِن مصادر المَعرفة والاطِّلاع على المُستجدات، ولا وسيلةً لمتابعة مُجريات الأمور، بل لها استعمالات أخرى، ووظائف قد لا تخطر على بال. 

***

أوراقُ الصحف المُشبعة بالسواد هى، على سبيل المثال، أفضلُ أداةٍ لتنظيف الزجاج. الرصاصُ الكامنُ فى الأحبار يجلو الأسطُحَ ويمنحها بريقًا لا تأتى به المَمسحةُ الحديثةُ؛ سواءً كانت مِن النسيج أو المطّاط أو مِن مادة أخرى، وبغض النظر عن نوع السائل المنظف؛ يعرف مَن لهم خبرة ودراية وتجربة أصيلة، أن قليلًا مِن الخلّ والماء وصفحة مِن صفحات الجريدة، بمنزلة أدوات مَضمُونة للحصول على زجاج لامع، لا غَيم فيه ولا ضباب. 

***

فى أوراق الصُحُف تُلف أكوازُ البطاطا، وأعوادُ الجرجير والمَقدونس، وتستقر كُراتُ الخسّ، وعليها أيضًا يتناثر الفتاتُ حول أطباق الآكلين؛ إذ هى مَبسوطة مَمدودة تحتها، تتلقى ما يتساقط عن الأفواه وما ينفلت مِن الملاعق والصحون.

***

فى زمنٍ مضى، كان بعضُ الناسِ يضعون أوراقَ الجرائد بين ما يرتدون مِن ملابس، كى تحمى صدورهم مِن نزلات البرد، وتقيهم شرَّ السُعال. صار ذكر هذا السلوك الآن، كِناية عن المُبالغة فى الحماية. نوع مِن أنواع السُخرية التى تُوَجَّه إلى شخص بالغٍ راشد. رأينا فى كثير مِن الأعمال الدرامية تندرًا على بطلٍ؛ لا يزال مُرتبطًا بأيام طفولته وبحماية أمه له، وفى فيلم ”سهر الليالي“ لم تطق إحدى البطلات أن يظل زوجها متمتعًا بأمارات البراءة الأولى والمشاعر البكر الساذجة؛ فهجرته مُستاءة، ساخرة من طبعِه ومَسلَكِه، وكانت أوراق الجرائد التى أدفأت صدره فى الصغر، إحدى المَزحات المُهينة التى يتداولها أصحابه بعدما صار رجلًا ناضجًا، مزحة تعذب الزوجة، وتعكس لين زوجها وتشى بضعفه وتخاذُله.

***

مَنافعٌ جَمَّة تجود بها الصحفُ على حائزيها، بغضِّ النظر عن مُحتواها الفكريّ. مَنافعٌ جَمَّة تتجاوز تعقيدات الواقع وأزماته، ولا تعبأ بتنظيراتِه ومُجادلاتِه، والحقّ أن ما نقرأ فى غالبية الصُحُف هذه الأيام، يجعل مِن استعمالاتها المعيشية أمرًا أهم وأجدى، فقد تدنّى الشكلُ، وتسطَّح المضمونُ، وتشابهت الكلماتُ، وتكررت الأفكار وغدت أُطُرًا جوفاء؛ تبعثُ على الملل والسأم، وتَصدُّ القارئ عن الاستطرادِ وعن استكمالِ ما بدأ. 

***

كثيرٌ مِن صحفِ اليوم، تستمرئ التلاعبَ وأحيانًا الكذب، ولا تجد نتفة مِن خجلٍ أو حمرة تلوح فى الوجه؛ لسوء ما تبثّ وتعرض، بل جهر بانعدام المهنية، وتفاخُر بمُحاباة السُلطة، ومُزايدات لا تنتهى، تجعلها أداة جيدة للمسح والمحو. مثلها تفعل القنوات التلفزيونية، ويفوق أثرها الصحف إذ تصل لجمهور أوسع؛ يراها الناس ويتابعون برامجها ويستمدون منها الخبر والمعلومة المشوهة. أذكر منذ أسابيع قليلة، اتهام الرئيس دونالد ترامب قناة ”سى إن إن“ بأنها لا تمثل الشعب الأمريكى، وأنها تسيء إلى الولايات المتحدة. لم تنف القناةُ عن نفسها التُهمة ولا تنصَّلت مِن الجريمة المزعومة، بل ردَّت بوضوح أنها لا تمثِّل أحدًا، فمهمتها هى نقل الأخبار. مُهمة الصحف والقنوات ووسائل الإعلام جميع هى نقل الحقيقة. 

***

”مُمكن جرنان؟“ أجبت فى المرة الأخيرة وقبل أن أصل مقصدى بقليل، أن الصُحُفَ التى أحملها لا تزال طازجة، فابتسمت السائلةُ وهى تعقِّب: ” تقرأيهم بالهنا“. بادلتها الابتسامة ودهمنى إحساسٌ بالجوع.

 

بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات