عن «الإنسان» .. الذي اختفى - أيمن الصياد - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 3:30 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

عن «الإنسان» .. الذي اختفى

نشر فى : الأحد 14 أكتوبر 2018 - 8:55 ص | آخر تحديث : الأحد 14 أكتوبر 2018 - 10:50 م

هذا مقال ليس بوسع كاتبه أن يستبق تحقيقات تجرى، أو ربما لا تجرى أبدا. كما أنه يحاول ألا ينجرف إلى هاوية استقطاب صفري مرير ضاعت معه ليس فقط «إنسانية» المعلقين، والمعنيين، والمُصرحين، بل ضاع معه كل منطق.

لك أن تتفق أو تختلف مع سياسات هذا النظام أو ذاك، ولك أن تتفق أو تختلف مع آراء هذا الكاتب أو ذاك، ولكنك قطعًا، «كإنسان»، لن ترضى بأن يختفي هذا «الإنسان» أو ذاك

اختُطف أم قُتل؟

قُتل أم لم يُقتل؟

عمدا، مع سبق «الاستدراج» والإصرار والترصد (كما يقول التعبير القانوني) أم خطأ بعد أن فشلت عملية تخديره (كما تقول تقارير استخباراتية غربية)؟

مُثل بجثته (كما سمعنا من البعض)، أم كُرمت (كما يقضي ديننا الحنيف)؟

من المسؤول عن «الجريمة»؟

حتى كتابة هذه السطور، ورغم شواهد وقرائن تراكمت، لم يتأكد (بالدليل القاطع) أىٌّ من ذلك كله. ولكن تبقى الإجابات في النهاية، أيا ما كانت في باب التفاصيل.

لم ينجح الصخبُ المتعمد حول ما لم يتأكد إخفاءَ ما تأكد: هناك إنسان اختفى. ليس في قفار بادية، ولا محيط متلاطم، بل بعد أن دخل قنصلية بلاده في مدينة أوروبية إسلامية كبرى في وضح النهار في يوم من أيام العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين. حيث لا شيء يختفي هكذا، ولا الحقيقة مهما كان ركام البيانات الرسمية.. والأكاذيب.

غاب المنطق عن كثير من الجدل الذي بات عقيما (ولا إنسانيا)، وحضرت ألاعيب السياسة؛ تصفية للحسابات، أو بحثا عن صفقات. ولكن وسط كل هذا الضجيج حول ماذا جرى، ومن فعلها. وهي أسئلة مشروعة وضرورية بلا شك. بقيت الحقيقة «المرة» التي لا جدال حولها، والتي أخشى أنها ضاعت وسط كل هذا الصخب:

١ــ أن هذا «كاتبٌ» كان يحمل قلما لا قنبلة.

٢ــ أن هذا «إنسانٌ» قُتل أو على الأقل اختفى دون أثر.

وفي الحقيقتين ما لا يصح «أخلاقيا» أن نتجاهله، مهما كانت حساباتنا أو انحيازاتنا المسبقة.

وأحسب أن مما لا يحتاج «البشر» أن نذكرهم به: أن لك أن تتفق أو تختلف مع سياسات هذا النظام أو ذاك، ولك أن تتفق أو تختلف مع آراء هذا الكاتب أو ذاك، ولكنك قطعا، «كإنسان»، لن ترضى بأن يختفي هذا «الإنسان» أو ذاك.

عن «الإنسان» الذي اختفى، أكتب.

***

في تاريخنا العربي (الحديث، كما القديم)، والمتميز بوحشية أنظمته وأجهزته الأمنية هناك دائما متشابهات (ومفارقات). اختفى موسى الصدر (الإمام)، ومنصور الكخيا (الوزير)، وراج أن أصابع القذافي وأجهزته كانت في الإناء. وأن ذلك، وغيره لم يتم إلا تحت رعاية (الأخ العقيد) الذي كانت «الألسنة الحداد» لخلافه مع الأسرة المالكة السعودية من العلامات المميزة لتاريخ نظامنا العربي (التقدمي/ الرجعي) في عقود ما بعد التحرر الوطني التي اكتشفنا فيها بالتجربة المؤلمة والدموية أن «هذا واقعيا لم يختلف فيها عن ذاك». فكلنا في الهم شرق، مهما تباينت النظم «واللافتات». وكلنا أوفياء، لا لعمر، الذي نام تحت الشجرة، أو الذي حاججته امرأة وهو أمير المؤمنين؛ «بلا وجل ولا خوف»، بل للحجاج الذي أجلس الناس، وكأن على رءوسهم الطير ليسمعهم: «أرى رءوسا قد أينعت، وحان أوان قطافها». هل كان أوان رأسك قد حان يا جمال؟ وهل هناك من تأله ليحدد بنفسه (التي لا يملكها أصلا) هذا الميعاد؟ الله وحده يملك الإجابة.

***

كان صحفيا مستقلا، أو يحاول أن يكون كذلك في منطقة لا تقبل بغير خطباء يدعون لعلي في الصباح ثم لمعاوية آخر الليل «إذا ما تأكدوا أنه الخليفة»

عرفت جمال خاشقجي قليلا. واختلفت معه كثيرا.

أخذت على جمال رهانه على إصلاح بن سلمان. وعلى صلاح الإخوان المسلمين. فلا إصلاح بن سلمان حقيقي، مادامت قد غابت عنه المؤسسية وحكم القانون «المجرد»، ولا صلاح الإخوان المسلمين سياسي، مادامت قد بقيت عقيدتهم هرمية فوقية تقوم على بيعة السمع والطاعة.

وأخذت على جمال يقينه الطوباوي أن بإمكانه أن يبني وسيلة إعلامية مستقلة، وحرة. في زمن عربي استقطابي استدعى من القبيلة أسوأ ما فيها؛ «عصبيتها، وعنصريتها». فكان أن توقفت قناته بعد يوم واحد من البث وعام كامل من الإعداد.

بتفاؤله الطفولي، جاب جمال يومها بلدان الجوار ظنا منه أن أحدها يتحمل استقلاله، فخذله أردوغان، وخذله رأس مال «صديق» هو بحكم قوانين رأس المال، يعرف كيف يتراجع خطوتين إلى بر الأمان، حين تعلو أمواج المخاطرة.

كان جمال طوباويا مثاليا، وطفلا جميلا بريئا.

لم ألتق الرجل غير مرة واحدة، وإن لم تخني الذاكرة فأظنها كانت على الساحل الإماراتي للخليج، وقت أن كان الخليج «العربي» واحدا، أو كنا نظن. كان أمام تشاؤمي متفائلا. وبدا أمامي كعادته، يضع ثقته «متفائلا» في غير محلها. بالضبط، كما فعل حين خطا خطوته الأخيرة «وحيدا» نحو باب قنصلية بلاده في ذلك اليوم الملبد بالخيانة.

«كلهم قتلوك يا جمال»، ثم وقفوا كما في حكايا شكسبير يتبادلون الاتهامات.

كلهم قتلوك؛ بالسلاح، أو بالصمت، أو متاجرة إعلامية بقضيتك، أو بمقايضة دمائك على طاولة صفقات سياسية، أو اقتصادية قذرة.

بعض من يعرف يقينا ما جرى لك (بحكم موقعه، أو بحكم المنطق) لم ينطق. والبعض الآخر لم يتردد في أن يكذب.

أعرف شخصيا عشرات ممن صمتوا (أو أجبروا واقعيا على ذلك) على الرغم من أن في فمهم ماء. وأعرف شخصيا من كذبوا (أو أجبروا واقعيا على ذلك) على الرغم من أنهم يعرفون الحقيقة.

وأتذكر أن جمال لا غيره لطالما كان يعذر هؤلاء.

كلهم خانوك يا جمال، إلا جريدتك تلك (التي تنتمي للأسف لعالم غير عالمنا) والتي تعرف معنى أن يقتل صاحب قلم لا لشيء إلا بسبب آرائه.

***

كأنها سطور في دراما / تراجيديا إغريقية. خسر خاشقجي عائلته، بعد أن اضطر للمنفى. ثم خسر فرصة تكوين عائلة جديدة، بعد أن اضطر للذهاب إلى قنصلية بلاده، لإنهاء الأوراق اللازمة لزواجه. فذهب، ولم يعد.

كان خاشقجي واعيا إلى حقيقة أنه يمثل ما ربما أمكن تسميتهم، في القرن الحادى والعشرين «بعرب الشتات». أولئك الذين اضطروا بحثا عن أمانهم، وعن حرية كلمتهم إلى مغادرة أوطانهم وأهاليهم، وشعورهم بالاستقرار والأمان.

عاش جمال حياة صحافية وسياسية ثرية وخطرة. حملته من جبال أفغانستان الوعرة، إلى دهاليز القصور المتقاطعة الحسابات. ومن رئاسة تحرير لصحف كبرى في بلاده، إلى كاتب رأي في صحيفة عالمية كبرى. وفي كل محطة صحفية له، كان في حبر قلمه ما أغضب هذا أو ذاك.

ثم كان أن مات الرجل (أو هكذا يُعتقد)، ليس في أرض المعركة التي عاش أوارها في أفغانستان، ولا في واشنطن التي اختارها منفى «إجباريا» لم يكن أمامه غيره، بل في إسطنبول حيث لا مكان لحرية الصحافة، أو لقلم يخرج عن طوع السلطان. كأنها رسالة ربانية: «كلنا في الهم مسلمون، أو عرب». ولا فارق بين خليفة أو سلطان أو أمير أو زعيم مفدى أو ملك.

كان جمال ليبراليا، ولذا كرهه المتشددون الذين يَرَوْن الدنيا من منظار واحد، والذين لم يطيقوا «انفتاحه»، فأقصوه عن رئاسة التحرير مرتين لاتهامه بمناوأة أفكارهم، إلا أنهم، سرعان ما شرعنوا لما سمى «انفتاحا»، عندما جاءت تعليماته من القصر. فقهاءُ الحاكم المتغلب هم، وأبواقه الذين يدعون على المنابر لعلي في الصباح ثم لمعاوية آخر الليل، «إذا ما تأكدوا أنه الخليفة».

كليبرالي «حقيقي» لم يتردد جمال يوما في الدفاع عن من أخذته منهم غضبة القصر. ثم كان أن عشنا لنرى ليبراليين آخرين (أو يقولون إنهم كذلك) يغضون الطرف هكذا عن مأساة ما جرى له.

من عرف جمال، أو قرأ له، يعرف أنه لم يكن معارضا بالتعبير الاصطلاحي للمعارض السياسي، لكنه كان صحفيا مستقلا، أو يحاول أن يكون كذلك في منطقة لا تعرف للصحافة أن تكون مستقلة، بل أن تكون بوقا للحاكم، كما كان الحال عبر أربعة عشر قرنا من الدعاء للحاكم، أيا من كان الحاكم من على منابر المساجد. وظيفة الخطباء القديمة تلك التي ورثها الإعلاميون.

لم يكن جمال معارضا بل كان مستقلا، حاول الإصلاح «من الداخل» قبل أن تجبره «الاستحالة» إلى المنفى الذي قد يسميه البعض اصطلاحا «اختياريا» في حين نعرف جميعا أنه بحكم الواقع «إجباري».

وعلى الرغم من وقوفه، «كإنسان» ضد الجور على حقوقهم (كمواطنين وبشر) لم يكن جمال «إخوانيا»، كما هو التوصيف الذي يريدون له أن يكون «تهمة» يلصقونها هكذا بهذا أو ذاك. بل يعرف من قرأه دعوته الواضحة لعودة الإخوان إلى «ثكنات الدعوة»، واعتزال السياسة «التي كانت ممارستهم لها كارثية» كما كتب، ناصحا: ليتهم يرفعون شعار «الديمقراطية هي الحل» مثلما رفعوا يوما شعار «الإسلام هو الحل»

***

لولا أقلام «حرة»، وصحافة «حرة»، لاختفت قضية جمال معه .. حيث لا نعرف

ذهب جمال إذن، إلى حيث لا نعرف (حتى الآن على الأقل)، فأين ستذهب قضيته؛ «كرة الثلج» التي تكبر كل يوم؟

أخشى ألا تستقر في النهاية في ساحة العدل «النقية» التي يرجوها المتفائلون.

فالبعض يراهن على الوقت والنسيان.

والبعض يراهن على «محفظته».

وفي هذا العالم الميكيافيلي / الترامبي يحكم النفوذ والمال المعادلة.

سيعود القس برانسون إلى بيته. وستتحسن الأزمة الاقتصادية في تركيا. وسيدفع السعوديون كل ما يطلبه ترامب، الذي لم يخف أبدا نواياه ولا نهمه لثرواتهم. وستظل السيدة «كارين عطية»؛ محررة الواشنطن بوست تذرف دموعها الصادقة كلما تذكرت أن كاتبا لا يحمل غير قلمه دفع وحده ثمن كل ذلك.

«هل ستتراجع أهمية تحقيق مصالح شركات النفط والأسلحة وتحل محلها أولوية حقوق الإنسان؟» يتساءل جمال حزينا فى مقال مؤثر كتبه قبل أشهر في «رصيف ٢٢». وأخشى أن يؤكد ماجرى له الإجابة التي حذرنا منها في مقاله.

يذكرنا جمال بصورة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وهو يحتفي بالرئيس الأذري (الديكتاتور) إلهام علييف والتي تشرح «كيف تقهر المصالح والبراجماتية قضايا حقوق الإنسان بغض النظر عن عدالتها». إنها المصالح التي «تجعل أردوغان يهتم بحقوق الإنسان هنا ويتجاهلها هناك». يذكرنا جمال (المتهم بأردوغانيته) مردفا: أنها «ذات المصالح التي تجعل آلافا، بل ملايين اللاجئين العرب، الذين لم يجدوا لهم مأوى غير تركيا، يصفقون كل يوم لأردوغان، غير معنيين بنحو خمسين ألف تركى معتقل منذ المحاولة الانقلابية الفاشلة.

تعلم جمال الدرس. ولكن، كما «يشقى ذو العقل بعقله»، كذلك ذوو المبادئ والضمائر الحية. الذين لا يطيقون الظلم، مهما كان المبرر. والذين يؤمنون بأن «المبادئ لا تتجزأ».

***

وبعد..

فلولا أقلام حرة في صحافة حرة، تدفع أصحاب القرار قسرا إلى اتخاذ ما يلزم نحو إقرار العدالة «والإنسانية»، أخشى أن لا تذهب أزمة ما جرى مع جمال خاشقجي، على الرغم من مأساويتها إلى أبعد كثيرا مما ذهبت إليه أزمة ما جرى مع سعد الحريرى قبل نحو العام. فالحسابات أكبر وأكثر تعقيدا مما يتصور أولئك المثاليون، الذين يفكرون بالطريقة ذاتها التي كان يفكر بها جمال. فميكيافيللي لم يمت، بل جمال هو الذي ربما مات. وما تحت الطاولة من أوراق «وصفقات» أكثر بكثير مما فوقها. كل العزاء للرجل / الإنسان، ولطوباويته، ولما كان يمثل من قيم.

ـــــــــــــــــــــــــ

لمتابعة الكاتب:

twitter: @a_sayyad

Facebook: AymanAlSayyad.Page

ــــــــــــــــــــــــــــــــ

روابط ذات صلة:

الملك (الشروق: ١٢ نوفمبر ٢٠١٧)

الكتابة في الزمن الصفري (افتتاحية الاتحاد: ٢٦ أكتوبر ٢٠١٧)

ــــــــــــــــــــــــــــــــ

مما كتب جمال خاشقجي:

تحاشوا السجن ما استطعتم .. عن الحرية والسجن والاكتئاب

أنا سعودي ولكن مختلف

السعودية لم تكن قمعية الى هذا الحد. حاليا غير محتملة

أيها الإخوان ما لكم والسياسة؟

ــــــــــــــــــــــــــــــــ

الصور:

١ـ جمال وأسرته

٢ـ صفحة الواشنطن بوست التي تركت فيها عمود الكاتب فارغا

٣- «قل كلمتك .. وامش» صفحة خاشقجي علي تويتر

أيمن الصياد  كاتب صحفى
التعليقات