نعمة العطاء وفضله - هنا أبوالغار - بوابة الشروق
الخميس 25 أبريل 2024 1:10 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

نعمة العطاء وفضله

نشر فى : الخميس 14 يونيو 2018 - 9:15 م | آخر تحديث : الخميس 14 يونيو 2018 - 9:15 م

يأتى رمضان ويرحل ليكون أهم ما يذكرنا به هو فضل العطاء ونعمته علينا. فرمضان شهر يحبه معظمنا، من يصوم منا ومن لا يصوم، المسلم والمسيحى، من ذا الذى لا يشتاق إلى ليالى رمضان وفجره؟ إلى تجمعات الأسرة والأصدقاء، إلى جو الترقب أثناء اليوم والبهجة بعد الإفطار.
وعلى رأس كل هذا جو التراحم النابع من شغف الأغلبية بالبحث عن فرصة للعطاء المادى أو المعنوى. سواء فى موائد الرحمن (وهى ظاهرة موجودة بأشكال أخرى فى بلدان غير إسلامية، تسمى مطبخ الشوربة أو Soup kitchen، فكرة المكان المفتوح ليأكل فيه غير القادر وجبة مجانية مغذية ودافئة عادة ما تقدم بأيدى متطوعين). أو فى الشباب الذى يقف فى إشارات المرور متلهفا لإطعام الصائم وقت أذان المغرب، أو فى تكرار السؤال عن مكان يستحق أموال الزكاة، أو فى شنط رمضان التى أصبحت هى الأخرى تقليدا جميلا مهما قل أو كثر محتواها، رسالة حب وتكافل. فرمضان العبقرى بصيامه، هذه العبادة التى لا يراها أو يراقبنا فيها سوى خالقنا، وإفطاره، هذه اللحظة الجماعية التى نتقاسم كلنا فيها متعة الارتواء ونعمة الأكل، يعطينا هذا الشهر دروسا مهمة فى الاستثمار فى النفس والمجموعة، فى قيمة «الأنا» و«الآخر» والتوازن بينهما. والأغلب أن هذا التوازن هو ما يجعلنا نخرج من رمضان راضين سعداء.
وجد علماء النفس أن مناطق السعادة والرضا التى تضاء بالرنين المغناطيسى بالمخ واحدة أثناء الأكل وممارسة الجنس، وأن نفس هذه المناطق تضاء مع فعل العطاء (مساعدة شخص، أو التبرع لجهة خير، أو التطوع فى عمل عام... إلخ). وقد اكتشف المصريون هذه المتعة مبكرا، وامتدت جذور التكافل عبر الأجيال، فمعظم الأسر المصرية حتى الأقل حظا منها لها من تكفلهم، وهو الأمر الذى أنقذ مصر والمصريين عبر تاريخهم الطويل الملىء باللحظات العصيبة. كان لتدين المصريين تأثير قوى فى هذه العادة فالمسيحى والمسلم على حد سواء يستند إلى وصية دينه بالرحمة والعطاء ويخرج العشور والزكاة والصدقة.
***
حتى يكون عطاؤنا أكثر تأثيرا على مجتمعنا، والسعادة النابعة منه حقيقية وليست مزيفة، وأيضا من باب الالتزام نحو قيمة العمل العام حتى لو كان تطوعيا واحترامنا له، من المهم أن نراعى بعض القواعد التى تحول جهودنا من «فعل خير مبنى فقط على رغبة الإحساس بالرضا عن النفس، إلى فعل «تنموى» تأثيره أوسع وأكثر استدامة».
ومن هذه القواعد:
ــ ابحثوا عن شغفكم «passion» فالتطوع لابد أن يملأ وعاء الرضا بداخلنا، وهذا لن يحدث إلا إذا كان فى مجال «ينادينا» ولكل منا «نداهة»، فهناك من هو مشغول بالصحة، أو التعليم، أو الطفل، أو كبار السن، أو ذوى الاحتياجات الخاصة، أو البيئة، أو الثقافة… إلخ، استثمروا فى شغفكم حتى تجدوا المتعة التى تضمن الاستمرارية.
ــ أعطوا من وقتكم، العطاء المادى مهم جدا، خصوصا فى البلاد الأفقر حيث هناك احتياج حقيقى للتكافل الاقتصادى، لكن بجانب العطاء المادى، «فهدية الوقت» لها بعد إنسانى مختلف. عندما تعطى من وقتك وخبرتك وتساهم بالمشاركة الفعلية بالعمل، فأنت تحقق أحد أهداف العمل العام وهى أن نتعارف ونتراحم ونهدم الأسوار بين الأشخاص من خلفيات مختلفة، فهى توسع دائرة معارفنا وتعلمنا الكثير، والعلاقات والصداقات التى نكونها فى الفعل الجماعى لها طعم خاص وسعادة كبيرة.
ــ أحسنوا اختيار جهة التبرع، على المتبرع مسئولية أبعد من فعل العطاء، فالهدف ليس فقط أن نسقط فريضة الزكاة أو أن نحس بالرضا عن أنفسنا، الهدف الحقيقى هو عمل تغيير يمس بشرا فى المجال الذى يقع فيه شغفنا، التبرع لمؤسسات أو جمعيات سواء كانت أهلية أو مرتبطة بمؤسسات حكومية قائمة هو غالبا أفضل من العمل المنفرد لأنه سيكون أكثر تنظيما واستدامة وسيقع فى خانة التنمية المستدامة وليس سد حاجة مؤقتة فقط. فى نفس الوقت من المهم أن تراعى هذه المؤسسات شروطا متعارفا عليها دوليا، فلابد أن تكون المؤسسة مراقبة من عدة جهات فنيا وماليا، وتكون مشهرة فى وزارة التضامن الاجتماعى خاصة إذا كانت ترعى فئات مهمشة من السهل استغلالها مثل الأطفال، أن يكون لها رقابة مالية داخلية ومراقب خارجى بالإضافة إلى رقابة الدولة وأن تكون تعاملاتها المالية وأسماء متبرعيها سواء جهات أو أفرادا متاحة إذا ما طلبت منها من قبل المتبرع. وأن تكون أبوابها مفتوحة للزيارة من قبل المتبرع فى الأوقات التى لا تسبب اضطرابا لعملها لكن تضمن تواصلا حقيقيا بين المتبرع والمستفيد.
ــ استثمروا فى العنصر البشرى فأى مؤسسة تنموية فى العالم تحتاج إلى إدارة وموظفين ومرتبات والتبرع لهذا الغرض مهم لأن بدونها لن تقدم خدمة جيدة، ويشترط ألا تزيد المصروفات الإدارية عن ٣٠٪ من ميزانيتها، أما التبرع لمرتبات مقدمى الخدمة فهو لا يدخل فى هذه الثلاثين بالمائة لأن العنصر البشرى يكون فى أوقات كثيرة أهم عنصر فى تحقيق الغرض من المشروع التنموى، فمثلا مرتبات الممرضات أو الأطباء فى مستشفى خيرى هو جزء أصيل من الخدمة الطبية، لأن الأدوية والأجهزة بالرغم من أهميتها لا ترتقى إلى دور التمريض الجيد ومهارة الطبيب فى نتائج العلاج، نفس الشىء ينطبق على دور الرعاية للأطفال خارج الحماية الأسرية، فالاستثمار فى مرتبات أمهات بديلات لديهن من الخبرة والتعليم والحماس ما يجعلهن مناسبات لمثل هذا العمل هو استثمار لا يقل أهمية أبدا عن التبرع لمواد غذائية أو للتعليم.
ــ لا تستهينوا بما التزمتم به فعندما تعدون مؤسسة أو جمعية (أو أسرة أو فرد غير قادر) بتبرع لغرض ما، أو بالقيام بمهمة ما)، فهذه المؤسسة أو الجمعية أو الأسرة تبنى موازنتها وخطتها المالية والفنية على وعدكم ووعود آخرين مثلكم، وعدم التزامكم بها يعطل عملها أو يورطها ماليا أو يمنعها من البحث عن متبرع أو متطوع بديل اعتمادا عليك فتكون قد آذيت الهدف بالرغم من حسن نيتك. العمل العام بالرغم من أنه تطوعى لكنه يجب أن يعامل بجدية والتزام كما نعامل عملنا المهنى، ونفخر بنتائجه كما نفخر بنتائج مهنتنا تماما.
***
فى النهاية الإنسان كائن جماعى يعيش فى أسرة ومجتمع وينتمى إلى بلد، مستقبلنا ومستقبل أولادنا وسعادتنا مرتبطين بمستقبل هذا المجتمع، وعلينا مسئولية أخلاقية أن نبنى جسورا من التعاون والتكافل والتراحم، وألا نرضخ أبدا لفتنة النفس، فمن يعتقد أن التكافل والعطاء فضل منه مخطئ لأن عائدها من السعادة والخبرة والعلاقات الإنسانية كبير. كل رمضان وبلدنا والعالم فى رحمة وسلام.

هنا أبوالغار أستاذ طب الأطفال بجامعة القاهرة
التعليقات