لماذا عاش جمال عبدالناصر؟ - عبد الله السناوي - بوابة الشروق
السبت 20 أبريل 2024 10:50 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

لماذا عاش جمال عبدالناصر؟

نشر فى : الإثنين 14 يناير 2013 - 9:00 ص | آخر تحديث : الإثنين 14 يناير 2013 - 9:00 ص

لم تكن زيارته رسمية، وصل إلى القاهرة فى صمت وغادرها فى صمت. طرأت الفكرة عليه أثناء مشاركته فى أعمال قمة «عدم الانحياز» فى شرم الشيخ قبل نحو أربعة أعوام.

 

ذكرياته دعته إلى العاصمة المصرية. تذكر إلهام حرب السويس عام (١٩٥٦)، وهو يتأهب مع «فيدل» و«تشى» من فوق جبال «سيرا ماستيرا» لدخول العاصمة «هافانا».. وفى وجدانه صدى صوت «جمال عبدالناصر»: «سنقاتل». كان النموذج المصرى موحيا بالأمل، فقد تمكنت دولة من العالم الثالث، استقلت بالكاد، من أن تؤمم «قناة السويس»، وأن تتحدى الإرادات الغربية، وأن تصمد فى المواجهات العسكرية، وأن تخرج المستعمرة القديمة إلى العالم لاعبا رئيسيا على مسارحه تمتلك قرارها ومصيرها.

 

بدت القاهرة هذه المرة مختلفة، السياسات تناقضت، والأحلام تراجعت، لكنه ظل مسكونا بمجدها الذى كان، وذكرياته التى لا تغادره.

 

عندما التقيته فى أحد فنادق القاهرة المطلة على نيلها بادرنى بكلمة واحدة رددها مرتين بصوت غلبته مشاعره على طريقة التعبير اللاتينية: «ناصريانو».

 

بدا الرئيس الكوبى «راؤول كاسترو» محتفيا بالمعنى والتاريخ والدور الذى لعبه «جمال عبدالناصر»، الرؤى ذاتها سكنت رجلين آخرين من طراز استثنائى: «فيدل كاسترو» و«تشى جيفارا».

 

كان «فيدل» هو قائد الثورة الكوبية، و«تشى» روحها وأيقونتها، و«راؤول» مسئولها العسكرى الأول.

 

الثلاثة الكبار التقوا «ناصر»، كل فى ظرف مختلف ولمرة واحدة. «فيدل» فى نيويورك على هامش اجتماع للجمعية العامة للأمم المتحدة، وكان اللقاء بتوقيته ومكانه حدثا بذاته.. و«تشى» فى القاهرة والحوار امتد حول الثورة وفلسفتها ووحدة المصير الإنسانى.. و«راؤول» فى القاهرة منتقلا مع الرئيس المصرى إلى الإسكندرية للاحتفال بالعيد العاشر لثورة (٢٣) يوليو.

 

المثير أولا فى القصة اللاتينية أن صورة «جيفارا» فى التاريخ فاقت حجم دوره.

 

لم يكن دوره بحجم «فيدل كاسترو» فى الثورة الكوبية، ولا يقارن تأثيره بالأدوار الكبرى التى لعبها «فلاديمير لينين» فى الثورة السوفييتية، أو «ماو تسى تونج» فى الثورة الصينية، أو «هوشى منه» فى الثورة الفيتنامية، والقائمة تطول وتمتد إلى قامات دولية أخرى لعبت أدوارا أكثر تأثيرا وأوسع نفاذا.

 

لماذا عاش «تشى جيفارا» أطول فى الذاكرة الإنسانية؟

 

لأنه ببساطة لخص فى شخصه وتجربته «قوة النموذج الإنسانى»، فهو «أرجنتينى» دعته فكرة الثورة إلى الحرب فى كوبا، وعندما انتصرت غادر السلطة سريعا، الثورة شاغله الوحيد، فكر أن يقاتل فى أفريقيا و«ناصر» نصحه ألا يفعل ذلك حتى لا يبدو طرزانا جديدا، حاول أن ينظم حروب عصابات فى أكثر من بلد لاتينى حتى استقرت به مقاديره فى أحراش بوليفيا التى لقى مصرعه فيها مصلوبا، وكانت صورته متماهية مع فكرة «المسيح يصلب من جديد» التى تمثلها روائيون أوروبيون أبرزهم الروائى اليونانى «نيكوس كازنتزاكيس» وألهمت أجيالا متعاقبة.

 

أسطورته استندت على قوة النموذج الإنسانى لرجل آمن بقضيته، لم يساوم عليها ومات فى سبيلها.

 

المثير ثانيا فى القصة اللاتينية أن تأثيرات الثورة الكوبية توقفت فى قارتها، ألهمت فى لحظات تاريخية فكرة حرب العصابات الثورية، وبدت نموذجا فى لحظات أخرى للتطور التقنى فى مجالات علمية متعددة، غير أن التطورات التى لحقتها مازجت بين العدالة الاجتماعية والديمقراطية. الخروج من التبعية فكرة مهيمنة فى الفكرين السياسى والاقتصادى اللاتينى، و«نظريات التبعية» التى سادت الجامعات الغربية يعود أكثرها إلى اقتصاديين لاتينيين، فهم كمجتمعاتهم مهجوسون بالأحوال التى هم عليها، وهى أحوال أفضت إلى انقلابات عسكرية ومجازر دموية على النحو الذى جرى فى «تشيلى» لإجهاض تجربة «سلفادور الليندى» على يد الجنرال «بينوشيه».

 

إنه إذن التحول التدريجى البطىء الراسخ من مشروع حرب العصابات إلى فكرة الدولة الديمقراطية الحديثة. كانت الرواية اللاتينية بواقعيتها السحرية قاطرة التغيير إلى العوالم الجديدة.

 

ولم تكن محض مصادفة الصداقة الإنسانية والروحية الوطيدة بين «فيدل كاسترو» و«جابرييل جارسيا ماركيز»، إنه الحلم اللاتينى فى الانعتاق يعبر عن نفسه بصيغ مختلفة.

 

حرب العصابات استدعتها الأنظمة العسكرية الفاشية والوسائل الديمقراطية تهيأت لها ظروف استجدت مكنت اليسار اللاتينى من الوصول إلى السلطة فى دول عديدة. بدا لافتا إعلان الرئيس الفنزويلى «هوجو شافيز»، الذى يصارع حاليا المرض المميت، أنه «ناصرى»، الأوقع أن ينسب مرجعيته إلى صديقه المقرب «فيدل كاسترو»، أو إلى «سيمون بوليفار» رمز القارة الذى جعله أيقونة حكمه، لكنه نسب نفسه إلى فكر رجل من قارة بعيدة، لم يره مرة واحدة فى حياته، قاصدا استلهام تجربته فى سعيها لتوحيد عالمها العربى ومواجهاتها للتدخلات الغربية فى مشروع مماثل لتوحيد القارة اللاتينية، وقاصدا استلهامها فى مشروعها للعدالة الاجتماعية، ولديه تطلع لمشروع مماثل ينتصف للمعدمين والفقراء.

 

المثير ثالثا فى القصة اللاتينية، أن التأثير الناصرى وصل إلى مناطق وجدانية فى اليسار اللاتينى، الذى عانى طويلا ومريرا من الانقلابات العسكرية، دون أن يستشعر تناقضا، أو أن يشير إلى «حكم العسكر»، فهو يدرك أن الدور الذى لعبه الجيش المصرى فى يوليو يناقض أدوار الجيوش اللاتينية فى انقلاباتها العسكرية التى جرت باتفاقات وصفقات مع الإدارات الأمريكية لقمع شعوبها ونهب مواردها.

 

قوة النموذج الإنسانى عند «جمال عبدالناصر» أبقته فى الذاكرة عقدا بعد آخر، ورئيسا بعد آخر، فهو لم يكن مجرد رئيس يدعى شجاعة لا يمتلكها ومشروعا لا وجود له، هو رجل أطل على المشهد السياسى بعد الحرب العالمية الثانية، نجح بتأميم قناة السويس أن يضع مصر فى قلب التفاعلات الدولية والإقليمية، وبدأ فى بناء السد العالى، الذى حمى مصر من الجفاف أو الفيضان فى أوقات مختلفة، وأضاف ملايين الفدادين إلى الرقعة الزراعية، وأحدث طفرة هائلة فى طاقتها الكهربائية. أنشأ الصناعات الثقيلة والمستشفيات والمدارس ووصلت خطوط المياه والكهرباء إلى كل بيت. كان عهده هو عهد البناء الكبير. قل ما شئت فى نقد التجربة الناصرية، لكنك لا بد أن تعترف أن مصر لم تشهد فى تاريخها كله منذ فجر الضمير عدالة اجتماعية تماثل ما جرى فى العهد الناصرى. المصريون هتفوا فى جنازته بحس تاريخى: «من بعدك هنشوف الذل».. وقد كان.

 

صاغ تجربته فى عصرها، أحلامه لاحقتها معاركه وجسارته صنعت زعامته. لا يولد شىء من فراغ ولا تجربته ولدت من عدم. هو ابن الوطنية المصرية فى لحظة تحول حاسمة، قيادته للعالم العربى لا مَن ولا ادعاء فيها، تخطئ وتصيب لكنها تصدق ما تقول ويصدقها الآخرون. كانت القاهرة العاصمة المركزية للعالم العربى، ولم يكن هناك شئ مجانى، فللأدوار تكاليفها وللنهضة شروطها. كان الدور المصرى فى تحرير الجزائر واليمن ومطاردة الإمبراطوريات الغاربة فى مشرقها العربى علامات لتجربة تدرك حقائق الدور فى محيطه، لديها مشروع تلتزمه لا ادعاءات تكذبها التصرفات. ولم تكن الملايين التى تخرج لاستقباله فى العواصم العربية التى زارها تشارك فى حفلات علاقات عامة، بل كانت تعتقد أنه قائدها إلى المستقبل، تؤمن بحلمه وتمضى معه، وعندما انكسر فى عام (١٩٦٧) خرجت التظاهرات فى عواصم عربية تطالبه بالبقاء وتدعو لمواجهة العدوان بنفس الهتافات التى شهدتها مصر يومى (٩) و(١٠) يونيو من هذا العام الحزين. كانت تجربته عميقة فى الوجدان المصرى على ما روى ملك الدراما التليفزيونية الراحل «أسامة أنور عكاشة». ذات مساء فى ضاحية «مصر الجديدة» بعد هزيمة يونيو فوجئ بموكبه يمر أمامه بينما كان ينتقده بضراوة مع مجموعة من أصدقائه. بلا اتفاق وجدوا أنفسهم يركضون خلف موكبه هاتفين باسمه.

 

كانت القاهرة فى عهده عاصمة تحرير القارة الأفريقية، أوسع عملية تحرير فى التاريخ الإنسانى كله، وبرزت من حوله قيادات أفريقية تاريخية من حجم «نكروما» و«لومومبا» و«نيريرى» و«سيكوتورى»، وهو ما دعا الزعيم الجنوب أفريقى «نيلسون مانديلا» أن يصف «ناصر» بـ«زعيم زعماء أفريقيا»، المعنى نفسه التقطه الروائى الكبير «بهاء طاهر» فى منطقة كينية نائية فى ذروة الحملة على «عبدالناصر» مطلع السبعينيات. التفت لصورة معلقة فى دكان بقالة بسيط، سأل صاحبه: «لمن هذه الصورة؟».. أجابه: «كيف لا تعرفه.. إنه أبو أفريقيا».

 

«مانديلا» نفسه، الذى قضى نحو (٢٧) عاما معتقلا فى السجون العنصرية، سيعيش أطول فى الذاكرة الإنسانية على النحو الذى جرى مع «ناصر» و«تشى». إنها مرة أخرى «قوة النموذج الإنسانى». هذه الفكرة بالذات تقتضى إيمانا آخر بوحدة المصير الإنسانى. عمل «ناصر» على إعادة صياغة العلاقات الدولية، وأسس مع الزعيم الهندى «جواهر نهرو» والزعيم اليوغسلافى «جوزيف تيتو» حركة «عدم الانحياز» لتجنب الانصياع لإحدى القوتين الكبيرتين، الولايات المتحدة أو الاتحاد السوفييتى.

 

سأله «نهرو» ذات مرة: «لماذا تصف مصر بأنها دولة نامية؟.. مصر دولة كبرى يا سيادة الرئيس».. فأجابه: «دولة كبرى بعالمها العربى». هذه العبارة تلخص رؤيته لمصر ومكانتها فى عالمها، فمصر داخل حدودها بلد منكشف فى أمنه القومى وفى طاقته على توفير احتياجاته، ومصر منفتحة على عالمها العربى بلدا كريما على نفسه وفى منطقته وعالمه.

 

مات مبكرا وعاش طويلا، رحل عن الدنيا فى الثانية والخمسين من عمره، لكن ظله حاضر حولنا.