أنا أمهم - تمارا الرفاعي - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 11:33 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

أنا أمهم

نشر فى : الأربعاء 10 يناير 2018 - 9:25 م | آخر تحديث : الأربعاء 10 يناير 2018 - 9:25 م

فاجأنى طفلى هذا الأسبوع بقوله إنه سوف يحبنى حتى حين يكبر وأتقدم أنا نفسى فى السن، وأنه سوف يستمر بتعلقه بى حتى لو عاش بعيدا عنى. ابتسمت له وقلت إن الحياة تجرفنا دون قرار منا إلى أشخاص جدد وإلى بلاد غير تلك التى يعيش فيها أهلنا، لذا فأنا جدا سعيدة بوعده لى وسوف أذكره به حين أصبح سيدة عجوزا أنتظر اتصاله وأكاد أموت من الملل. استغرب ابنى وسأل: هل نسيتى تيتة وجدو (أى أمى وأبى) حتى بعد أن صار لك بيتك فى بلد جديد وأطفال تعتنين بهم؟ وهل هم بنظرك أشخاص ينتظرون اتصالك بدل أن ينشغلوا بأمورهم اليومية؟

***

لم أعرف كيف أجيبه، هو ابن السنوات العشر، أو كيف أشرح له أننى كل يوم وعلى عدد ساعات النهار التى أمضيها معه ومع طفلى الآخرين، إنما أشعر أننى أحضر لسنوات تقدمى فى العمر. كيف أشرح لهم، أطفالى الثلاثة، أننى أتعمد أن أمعن النظر فى عيونهم حين أتحدث معهم حتى أحفر فى عينى نظراتهم كما هى اليوم، فأسترجعها حين يشيحون بوجوههم عنى، حالهم كحال جميع المراهقين، تماما كما فعلت أنا من قبلهم فى تلك السن التى تفرض أخيرا فك الارتباط مع البيت والعائلة كعلامة على التحرر والاستقلالية.

***

كيف أقول لابنتى أننى تغاضيت عن القوانين الصارمة التى كنت قد اتبعتها مع أخويها من قبلها، فسمحت لها بالتأخر قليلا فى ميعاد النوم، وسمحت لها أن تطالب بجلوسى قربها حتى تنام، وهو شىء لم أقبل به مع الولدين الأكبرين. آه يا صغيرتى يا آخر من سوف أعيش معه الأمومة والطفولة، ها أنا أكسر القواعد لأبقيك معتمدة على، متعلقة بى، مذكرة إياى أننى مصدر للأمان.

***

فى داخلى أم غير تلك التى تدعى تأففها من الأطفال، فى داخلى امرأة تحفر فى كل ركن من قلبها ذكرى لحظات عابرة فى يوم عادى، إنما هى لحظات أضاءت حياتى بصوت خطوات الصغيرة حافية القدمين على بلاط البيت. فى داخلى إنسانة هى أبعد ما تكون عن تلك التى كانت تقول، منذ سنوات مضت، أن حياتها لن تتأثر كثيرا بالأولاد إذ أن على الأولاد أن يتأقلموا مع حياتها وليس العكس. ها أنا أفسح لهم المجال وأفتح الباب إلى قلبى على مصراعيه: تعالوا واحتلوا ما يحلو لكم من مساحة طالما أنكم تملؤونه بأصواتكم. اطبعوا بصمات أصابعكم على جدران قلبى ولن أهرع إلى تنظيفها لأنها سوف تبقى هنا كتوقيع الفنانين حين ترحلون عنى إلى حيواتكم الخاصة وأبقى أنا هنا أنظر إلى بصماتكم وكأنها لوحات فنية عن حياتى معكم.

***

كتبت الكثيرات عن حب الأم لأولادها ولن أنافس أدبيات قد استفاضت فى الوصف وبرعت فى الحديث عنه. أنا أصف كيف ينفتح صدرى فيدخل فيه ابنى الأوسط الذى كثيرا ما يعبر عن الحب بشكل تلقائى دون مقدمات. أفتح يدى فيسرع ليضمنى وأشم رائحة المساء فى شعره المغسول. هذه رائحة الأسرة: مساء يوم مدرسى فى ساعة يكون قد عاد كل الأفراد إلى البيت. طبعا لابد من الأصوات التى تعلو فتتحول بسرعة إلى شجار بين الإخوة يتبعه تدخل منى أو من زوجى بصوت حازم ثم نتابع بعده الحديث، حديث مساء عادى يتخلله مراجعة جدول الضرب ثم درس الإعراب، فأغنية عيد الميلاد، هكذا بالتسلسل وحسب أعمار الثلاثة.

***

لن أنافس الأديبات ممن كتبن عن حبهن لأولادهن ولكنى سأصف التصاق ابنتى بى أو ربما هو التصاقى بها قبيل موعد النوم، فى تلك الدقائق الأخيرة التى تهدأ فيها النفوس وتهمد الأجساد فى استسلام للطبيعة ولنداء ملائكة النوم. لو كان بإمكانى أن أمد أى فترة فى يومى فسوف تكون تلك الدقائق المتراخية البطيئة التى تحمل فى طيات لحظاتها كل الحب الذى أقدر عليه، حب اليوم كله وتصالحى مع منغصاته، فكلها تذوب فى تلك اليد الصغيرة التى تلتف حول عنقى قبل أن يأخذ النوم صاحبتها.

***

أتساءل أحيانا إن كنت سأفهم وصف الأمهات إن لم أكن أما وأظن أن الحب غير المشروط، على الأقل فى المرحلة الأولى، هو مفهوم غريب لشخص مثلى يحاول أن يعقلن كل شىء ويجد تفسيرا منطقيا للأمور. أذكر يوم قالت لى صديقة أعتبرها قمة فى الثقافة والإنتاج الفكرى: حالة الأمومة لا شبيه لها فى كل العلاقات الإنسانية، هى فريدة ولا تتكرر من امرأة لإمرأة تماما كالبصمات، لكل امرأة بصمة. ولكن مع هذا الشعور بالخصوصية يجب أن تتذكرى دوما أنها حالة سبقتك إليها الملايين من قبلك فلا تظنى للحظة أن حبك لأولادك لا مثيل له عند غيرك من الأمهات.

***

تجلس الصغيرة على ركبتى بينما يتحرك الولدان فى المساحة من حولى. نأكل اللبنة مع الخبز الشامى، أصحح لهما بعض المصطلحات فنقارن اللهجة السورية بالمصرية، أتمرغ بلحظات لا يؤطرها أى فلتر، فهم ما زالوا غير واعيين للقيود التى سوف يضطرون حكما للتعامل معها فى أى مجتمع فى المستقبل. أظن أننى سوف ألتقط صورة بولارويد فورية كالتى كنا نلتقطها قبل عصر الهواتف الذكية. فى الصورة سوف تظهر الصغيرة وهى تحاول أن تمسك بالونا لونه أحمر، بينما يرفع الولدان رأسيهما باتجاه البالون. هنا توقف بنا الوقت وركزت الكاميرا على وجهى: أنا أمهم.

تمارا الرفاعي كاتبة سورية
التعليقات