عودة بطرس الأكبر - عبد الله السناوي - بوابة الشروق
السبت 20 أبريل 2024 12:42 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

عودة بطرس الأكبر

نشر فى : الأحد 8 نوفمبر 2015 - 10:00 م | آخر تحديث : الأحد 8 نوفمبر 2015 - 10:00 م
عند رجوع القيصر الشاب من رحلة تدريب عسكرية استوقفه مصنع ريفى صغير للسلاح.
فحص منتجاته بشىء من الاستخفاف بينما كان يمسك فى يده مسدسا ألمانيا حديثا بدا معجبا به للغاية.
باغته صاحب المصنع بما لم يتخيل أن يسمعه: «أستطيع أن أصنع أفضل من هذا المسدس الذى فى يدك».
لطمه على وجهه غاضبا: «لا تتحدث فيما لا تعرف ولا تستطيع».
رد عليه: «وأنت لا تضرب حتى تجرب وترى».
فى تلك اللحظة البعيدة، قرب نهاية القرن السابع عشر، تغير التاريخ الروسى، وبدأت أسطورة «بطرس الأكبر».
ألعاب السلاح استحالت إلى حقائق قوة، وصناعاته الحديثة بمعايير زمنها أضفت عليه مهابة افتقدها فى بداياته.
غير أن أعظم إسهاماته تبدت فى رؤيته الاستراتيجية للدور الروسى التى أسست لمفاهيم أمنه القومى، وقد رسخت عبر القرون فى ردهات الكرملين.
فى لحظات الضعف تخفت صورته وفى لحظات القوة تعود إلى الواجهة.
بمعنى أوضح هو رمز «العظمة الروسية».
وفق وزير الخارجية الأمريكى الأشهر «هنرى كيسنجر» فإن الرئيس الروسى «فلاديمير بوتين» يتصرف كـ«القيصر بطرس الأكبر».
الوصف فى محله بأى معنى تاريخى.
فى العهد السوفييتى لم تغادر صورة «بطرس الأكبر» مخيلة حكام الكرملين الجدد الذين أطاحوا عام (١٩١٧) حكم القياصرة.
كانت تلك مفارقة كبرى بين الثورة والدولة.
الأولى، تحكمها نظريات وعقائد.. والثانية، ترسم خطاها رؤى للموقع الجغرافى واعتبارات أمنه ونفوذه.
حاولت التجربة السوفييتية التى امتدت حتى نهاية الحرب الباردة عام (١٩٨٩) أن تمازج بين الالتزام الأيديولوجى والاعتبار الاستراتيجى فى إدارة سياستها الخارجية، أو بين «بطرس» و«لينين».
فى نفس المفارقة الكبرى كان أول «مفوض» للشئون الخارجية الروسية هو «ليون تروتسكى»، صاحب نظرية «الثورة الدائمة»، الذى أطيح به واغتيل تاليا بعد صدامه مع رجل الكرملين الحديدى «جوزيف ستالين».
يجلس الآن على مقعد «تروتسكى» رجل من طبيعة مختلفة تماما فى زمن جديد كليا هو «سيرجى لافروف».
اختفى الاتحاد السوفييتى السابق، لكن إرثه طاغ فى الخارجية الروسية التى تحاول أن تمزج فى عصر جديد بين استراتيجية «بطرس» وطموح «بوتين».
لا يمكن فهم الأخير بلا قراءة جدية فى إرث التاريخ.
عند تفكيك الاتحاد السوفييتى انهارت المكانة الروسية وفقدت الإمبراطورية السابقة احترامها، تفشت المافيا فى الاقتصاد والإعلام وبدا المشهد العام كله فاسدا.
كان ترنح سلفه «بوريس يلتسين» بأثر إدمان الكحول أمام الكاميرات تعبيرا مباشرا عن ترنح روسيا فى أوزانها الاستراتيجية وتماسكها الداخلى معا.
تجربة «بوتين» مثيرة للجدل وبعض أوجهها الداخلية مزعجة، غير أنه نجح فى وضع بلاده من جديد على خريطة القوى العظمى الأكثر تأثيرا ونفوذا.
فى صعود دوره اعتمد على قوة السلاح ووضوح الأهداف، كما تجلى فى أزمتى جورجيا وأوكرانيا.
لم يكن مستعدا للتفريط فى نفوذ الكرملين فى دول الاتحاد السوفييتى السابق.
جازف بالقوة لحسم مصير شبه جزيرة القرم التى تنازل عنها الزعيم الراحل «نيكيتا خروتشوف» لأوكرانيا عندما كانت جزءا من الدولة السوفييتية.
تعرض لعقوبات اقتصادية ونقطة ضعفه الرئيسية اقتصاد بلاده، فهو يحتل المرتبة العاشرة دوليا ولا يضارع الاقتصادات الأمريكية والأوروبية.
رؤية «بطرس الأكبر» حكمت مجازفته، حيث لا يمكن لروسيا أن تكتسب أى قوة استراتيجية دون سيطرتها على البحر الأسود.
للاعتبار نفسه يسعى لتمركز مقارب فى البحر الأبيض عند الشواطئ السورية.
بوضوح كامل فإن أوكرانيا هى القضية الأكثر أهمية والتدخل بالملف السورى طلبا لإغلاقها.
كانت الأزمة السورية ميدانا مفتوحا أمامه لاستعراض السلاح وإرباك الأطراف الأخرى بالدبلوماسية.
المهمة الأخيرة تولاها الثعلب الروسى «لافروف».
هو أكثر وزراء الخارجية فى العالم كفاءة ومهارة، وخبرته على مقعده تجاوزت أحد عشر عاما.
فى كل يوم اتصال وتحرك وتفاوض ومفاجأة.
البرجماتية سيدة الموقف، لكنها تعرف أهدافها فى خدمة المصالح العليا الروسية.
مرة يقول إن الرئيس السورى «بشار الأسد» خط أحمر، ومرة أخرى يقول إن بقاءه فى السلطة ليس أمرا حتميا.
فى المرتين التزام بأن مصيره يحدده الشعب السورى وحده.
القدرة على المناورة من سمات الأداء الدبلوماسى لـ«لافروف».
انتزع أوراقا تفاوضية من إيران التى وجدت نفسها تعود خطوتين أو ثلاثا إلى الخلف.
المصالح المشتركة بين البلدين تفضى بالضرورة إلى تأجيل أى نزاع محتمل لحين اتضاح الحقائق فى مفاوضات الغرف المغلقة.
بمواريث التاريخ السياسة الروسية لا ترتاح لتركيا، التى عادى «بطرس الأكبر» إمبراطورتيها العثمانية.
لكنها تحاول أن توازن بين طهران وأنقرة، تحالف الأولى دون أن تغلق الأبواب مع الثانية.
ألحت على حضور مصرى وإيرانى فى مشاورات فيينا، كأنها تتعمد أن تمسك بالخيوط الإقليمية كلها.
انفتحت على الخليج بصورة غير مسبوقة بحثا عن أى نقطة التقاء.
تجاوزت التحفظات الأوروبية التى تصرخ وتحتج على عملياتها الجوية، ومدت فى الوقت نفسه خطوطها مع الإدارة الأمريكية حتى يكون القرار الحاسم ثنائيا فى النهاية.
إلى أى حد يتمكن «لافروف» من أن يدير كل هذه التناقضات ويمسك بكل هذه الخيوط؟
التصور الاستراتيجى الروسى لإدارة الأزمة السورية يستبعد ــ على نحو قاطع ــ أى تورط عسكرى برى والتجربة الأفغانية رادعة.
فقد أفضى التدخل العسكرى السوفييتى فى أفغانستان إلى إلحاق هزيمة استراتيجية بها كانت من أسباب انهيار قوتها العظمى.
كل ما تطلبه العمليات الجوية الروسية تغيير معادلات القوة على الأرض قبل الذهاب إلى موائد التفاوض.
فى مشاورات فيينا مناورات واتصالات خلفية واحتمالات لفتح حوارات عربية مع إيران، إذ لا يمكن تسوية الأزمة السورية دون تسويات مماثلة فى أزمات إقليمية أخرى أو على الأقل فتح الأبواب المغلقة أمام مثل هذه التسويات.
هناك حالة سيولة دبلوماسية لم تستقر بعد على أوضاع صلبة.
كل شىء محتمل وكل السيناريوهات مفتوحة.
فى سؤال «لافروف» عن قائمة الأطراف المدعوة لتشكيل حكومة انتقالية فى سوريا والأطراف المستبعدة من أى تسوية سياسية باعتبارها إرهابية، دخول إلى التفاصيل.
المعنى أن روسيا تستعجل الحل السياسى، ولا تريد تمديد أدوارها العسكرية، فللقوة حدودها ومخاطرها.
بصورة لا يمكن إنكارها راهنت موسكو على دور مصرى جديد يعيد شيئا من التوازن إلى الإقليم وفق ما تتصوره من مصالح وتتبناه من استراتيجيات.
لم يكن هناك شىء مجانى فى وقوفها مع النظام الجديد فى وجه الضغوطات الأمريكية والغربية.
ولا فى استعدادها المعلن لصفقات سلاح متقدم بعد تجميد المعونة العسكرية الأمريكية.
ولا فى طلبها دعوة مصر لمشاورات فيينا بشأن الأزمة السورية.
غير أنها ظلت تنتظر فى منتصف الطريق إشارة مصرية تؤكد العزم على المضى فيه إلى نهايته.
بقيت تنتظر «جمال عبدالناصر» جديدا فإذا بها تخشى أن ترى أنور سادات آخر.
فى أى تفسير جدى لطبيعة الانقلاب الروسى المفاجئ فى إدارة أزمة سقوط طائرتها فوق سيناء فلابد أننا ننظر فى المرآة لكى نرى الأخطاء الدبلوماسية الفادحة التى ارتكبناها فى لندن.
رسالة «بطرس الأكبر» ربما تكون وصلت.
ومن غير المستبعد تواصل الرحلات السياحية فى مدى منظور.
استعادة «بطرس الأكبر» لا تعنى أن الزمن هو الزمن.
واستعادة هيبة القوة العظمى لا تعنى أن روسيا هى الاتحاد السوفييتى ولا أن الحرب الباردة عادت.
هذا عالم جديد لا نعرف كيف نقرأ حقائقه.