تفضلى يا ست - تمارا الرفاعي - بوابة الشروق
الثلاثاء 16 أبريل 2024 9:09 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

تفضلى يا ست

نشر فى : الأربعاء 8 أغسطس 2018 - 9:30 م | آخر تحديث : الأربعاء 8 أغسطس 2018 - 9:30 م

هناك شارع ضيق فى السوق القديم فى دمشق كنت أراه من أجمل زوايا المدينة وأكثرها حيوية على الإطلاق. هى حارة ضيقة تبدأ بعد بوابة معبد جوبيتر ذى الأعمدة العتيقة فى آخر سوق الحميدية الشهير، فتأخذ الزائر إلى مكان هو أشبه بمغارة على بابا، أو الأقرب إلى ما يتخيله أحدنا حين يفكر بالمدن التجارية كدمشق وحلب وإسطنبول كما كانت منذ قرون مضت.
الحارة تعج بالزوار وبالبضائع المتنوعة، لكن الحرير والأقمشة المختلفة تطغى على الأشياء الأخرى. اسم الحارة أصلا «سوق الحرير»، حيث تلمع الأنسجة تحت يدى السيدات بينما تنشغل الأفواه بالمفاصلة فى سعر متر أو عشرة من الحرير الهندى. أينما أنظر يتدلى أمامى ثوب مزركش، أينما أجول ببصرى أرى تطريزا بخيوط فضية أو ذهبية أمسح بيدى عليها لأتأكد من نعومة وحرفية ملمسها.
***
يطلق أهل دمشق على سوق الحرير اسم «سوق تفضلى يا ست»، ولا أذكر أن أشار إليه أحد قط بغير ذلك. كنت أضحك حين تقول سيدات عائلتى إنهن ذاهبات إلى سوق «تفضلى يا ست»، وأتخيل أفواها تخرج من أثواب الحرير الصفراء والحمراء لتدعو السيدات للدخول إلى المحلات. يقال إن تلك الحارة قد أصبحت سوقا للأقمشة والحرير فى العهد العثمانى، وهى قريبة من حمام كانت ترتاده السيدات هو حمام «القيشانى» الشهير. يقف الباعة المخضرمون عند أبواب محلاتهم المتلاصقة على امتداد المكان الضيق ويتفننون بدعواتهم للزائرات بالدخول. لا يحثونهن على الشراء إنما يصرون على أن يرى الزبائن الحرير بألوانه بصبغاتها الطبيعية وأن يمتعوا أعينهم بتطريز قماش «الصاية» السورى الشهير.
***
أتخيل يوما ربيعيا تنطلق فيه جدتى مع والدتها إلى سوق الحميدية، فتمشيان من أوله عند مدخل قلعة دمشق إلى آخره عند العامود اليونانى فتدخلان سوق الحرير حيث يستقبلهم نداء البائعين بقولهم «تفضلى يا ست»، تمضى جدتى وقتا مع أمها تختاران أقمشة سوف تفصلان منها جهاز جدتى إذ كانت على وشك الزواج من جدى. من هنا قطعة مزركشة سوف تلبسها جدتى بعد الخطوبة، ومن هناك قماشة سوف تتحول إلى فستان تستقبل فيه العروس من سيزورها ليبارك لها بالزواج. تمضى الساعات والاثنتان تدخلان وتخرجان من المحلات المتراصة على طرفى الحارة الضيقة المسقوفة قبل أن تنهيا رحلتهما فى الحمام للاغتسال من تعب اليوم.
***
أتذكر سوق تفضلى يا ست، كما أتذكر أسواقا كثيرة فى دمشق وحلب، لأننى، ورغم سفرى الدائم فى بلاد كثيرة، لم أحظ قط باستقبال كذلك الذى يخص تجار دمشق به الزائرين. فى دمشق القديمة، حيث تختلط رائحة الصابون البلدى بروائح البهارات وخصوصا القرفة، يتفنن البائعون بإظهار ترحيبهم بالزبون. فذلك الذى يسحب كرسيا من أسفل «فرشة» المكسرات، والآخر الذى يظهر فنجانا من القهوة السادة من خلف هرم اللوز والجوز، وآخر يحلف ألا يخرج الزائر دون أن يأخذ معه بعض الفستق الحلبى بعد أن يقشره البائع أمامه ويضعه فى طبق صغير من النحاس. الكلمات معسولة واللهفة دافئة وفى العيون كثير من الكلام سوف يقال حين تبدأ مفاوضات تخفيض الأسعار. ربما هو البعد، ربما هو الشوق، ربما يدفعنى حنينى إلى أيام عشتها وأخرى سمعت عنها من جدتى، لكنى فعلا لا أجد فى سفرى الدائم سوقا كسوق دمشق. وجدت بعضا منه فى المغرب وبعضا فى طرابلس فى لبنان، كما وجدت بعضا من نفسى فى البازار فى الهند، حيث رائحة التوابل وألوان الحرير، لكنى لم أجد تلك العيون الزرقاء المختفية وسط خطوط حفرتها الحياة على وجوه تجار دمشق، ولم أجد من يحلف يمين الطلاق إن لم أشرب الشاى بينما يضع لى البضاعة التى انتقيتها فى أكياس ورقية بنية، ويهدينى معها «حبة مسك»، وهو مصطلح يستخدم فى دمشق ليعنى هدية صغيرة من البائع إلى المشترى.
***
أين هى حبة المسك فى محل الشوكولا الفاخر فى المدينة الأوروبية العريقة التى أزورها مع عائلتى؟ أين يمين الطلاق عند البائع الأشقر الذى لا يكلف نفسه عناء سؤالى عن أمى أو عن خالى. أين هى عشرات الأمتار من القماش المفرود على طول المحل حتى يتسنى لى أن أرى بوضوح لمعته؟ هنا أمسك بضعة سنتيمترات من القماش فى كتالوج وعلى أن أقرر إن كنت سوف أشترى بعضا منه حتى يطلبه لى البائع ليصلنى بعد أسابيع. يا لبرودة السوق فى مفهومه الحديث، يا لثقل دم شخص يساعدنى على الشراء دون أن أمس أى جزء من روحه، لا أعرف والده كم قبله فى الدكان ولا أسأل عن زوجته وما إن كانت قد وضعت الطفل أم لم تضعه بعد.
***
التغيير يطحن المكان والذاكرة كالمدحلة التى تحول طريقا من التراب لطالما سلكه أهل الحى إلى طريق معبد. التغيير يملس التضاريس فتبدو الأسواق كلها سيان، لا فرق بين مكانها على الخريطة، لا طعم لها ولا رائحة قرون من السفر والمزايدة والفرح بما هو جديد. فى العوالم الكثيرة التى أجوبها أبحث طوال الوقت عمن يحملنى إلى هناك، حيث الخيرات مفرودة على طاولات أمام محلات أصحابها يقولون لى ولغيرى «تفضلى يا ست».
كاتبة سورية

تمارا الرفاعي كاتبة سورية
التعليقات