الانتخابات الرئاسية الفرنسية: منظوران متعارضان للعالم - إبراهيم عوض - بوابة الشروق
الخميس 25 أبريل 2024 3:28 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الانتخابات الرئاسية الفرنسية: منظوران متعارضان للعالم

نشر فى : السبت 6 مايو 2017 - 11:00 م | آخر تحديث : السبت 6 مايو 2017 - 11:00 م
عالم الانتخابات التنافسية والاستفتاءات غير معروفة النتائج مسبقا شهد فى الشهور العشرة المنصرمة أربعة منها هى بالترتيب الزمنى لإجرائها: الاستفتاء على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبى، والانتخابات الرئاسية فى الولايات المتحدة ومعها الانتخابات التشريعية فيها، والانتخابات العامة الهولندية، وأخيرا الانتخابات الرئاسية الفرنسية التى كانت جولتها الأولى فى 23 إبريل الماضى وتجرى جولتها الثانية الحاسمة اليوم، السابع من مايو. فى كل من هذه الانتخابات، وكذلك فى الاستفتاء البريطانى، كان ثمة منظوران للعالم معروضان على جمهور المصوِّتين، وإن اختلفت ظلال ألوانهما، أولهما هو منظور ماض قديم، منغلق على المصالح الذاتية، رآه الداعون إليه مجيدا يدعو للفخار، والثانى هو منظور عالم متغير جديد، ينفتح عليه ويتكيّف معه بدرجات مختلفة. هذان المنظوران المتعارضان للعالم لم يكونا من قبل بنفس وضوحهما فى الانتخابات الفرنسية.
فى الجولة الأولى لهذه الانتخابات كان المرشحون اثنى عشر، لم يستطع أى منهم أن يحصل ولا على ربع عدد الأصوات. المرشحون الأربعة الأوائل حصلوا على نسب متقاربة من الأصوات. المرشحان الأولان اللذان وصلا إلى الدور الثانى إيمانويل ماكرون ومارين لوبن حصلا على 24 فى المائة و21,3 فى المائة من الأصوات على التوالى، ونال كل من المرشحين الثالث فرانسوا فيّون والرابع جان لوك ميلونشون 20 فى المائة و19.6 فى المائة من الأصوات، بينما هوى نصيب المرشح الخامس بنوا أمون إلى 6.4 فى المائة من الأصوات. يمكن استخراج عدد من الدلالات من نتائج الدور الأول تفيد فى تفسير السياسة الفرنسية وفى تبيّن ما سيحدث فى الدور الثانى الفاصل.
المرشحان الثالث والخامس المستبعدان من السباق على الرئاسة الفرنسية هما مرشحا الحزبين اللذين حكما فرنسا منذ نشأة الجمهورية الخامسة فى سنة 1958، باستثناء سنوات حكم الرئيس فاليرى جيسكار دستان فيما بين سنتى 1974 و1981، وهما الحزب الديجولى، بأسمائه المتعاقبة، والحزب الاشتراكى. هزيمة مرشح الحزب الاشتراكى كانت قاسية بشكل خاص وقد فسرّت بأنها ترجع إلى عدم شعبية الرئيس الحالى فرانسوا أولاند وسوء أدائه، ولكنها تجد تفسيرا آخر فى المصير المشابه الذى تلقاه الأحزاب الاشتراكية الأوروبية فى انتخابات بلدانها. هذا التفسير هو أن هذه الأحزاب لم تأنف الأخذ بالسياسات الاقتصادية النيوليبرالية التى أدت إلى اتساع الهوة فى توزيع الدخل والثروة فى المجتمع، وإلى تفكيك الجانب الأكبر من الصناعة التحويلية والتحول فى بنية الاقتصاد من الصناعة التحويلية إلى الخدمات. النتيجة كانت غضب جمهور الأحزاب الاشتراكية عليها بل وانتقال بعضهم إلى تأييد أقصى اليمين، ثم وهو الأهم تقلص الطبقة العاملة، التى يجىء منها الجانب الأكبر من ناخبى اليسار، فاندثر الحزب الشيوعى، الذى كان يوما أكبر الأحزاب الفرنسية، وها هى نتيجة انتخابات إبريل تنذر بالقضاء على الحزب الاشتراكى بدوره.
***
إن تركنا فشل المرشح الاشتراكى جانبا وركزنا النظر على المرشحين الأربعة الأوائل، ثم على المرشحين اللذين وصلا إلى الدور النهائى، فإننا يمكن أن نخرج بدروس كثيرة مفيدة، نستعرض بعضا منها مركِّزين بشكل خاص على منظور كل من المرشحين للعالم باعتبار أن هذا المنظور هو الأساس فى القضايا التى يثيرونها وأولويات كل منهم، وفى السياسات التى يقترحونها. ماكرون، المعتبر مرشح الوسط فى الانتخابات، ينظر إلى العالم وإلى بلاده فيه من خلال العولمة. هو يدعو إلى اقتصاد فرنسى مندرج فى العولمة، وإلى قيم العولمة وإلى الهوية العالمية الجمعية الآخذة فى التشكل. فيّون، مرشح الصيغة الراهنة للديجولية، دعا هو الآخر إلى اقتصاد فرنسى مندرج فى العولمة ولكنه أعلن عن تمسكه بالقيم وبالهوية الفرنسية. ميلونشون، الذى بيّنت نتيجته أن اليسار لم يمت فى فرنسا على الرغم من اندحار مرشح الحزب الاشتراكى، دعا على عكس فيّون إلى اقتصاد فرنسى قومى النزعة ولكن إلى القيم والهوية العالمية المشتركة. أما لوبن فقد دعت إلى اقتصاد قومى النزعة وإلى التمسك بالقيم وبالهوية الفرنسية مانحة لهذه القيم ولهذه الهوية معانيهما الأكثر انغلاقا، وهى معان فيها تراجع عن نفس ما وصل إليه المجتمع الفرنسى قبل عقود من حقبة العولمة الحالية. الانقسام جلىّ بين المرشحين الأربعة فى الموقف من الاقتصاد وفى الثقافة السياسية.
اللافت للنظر هو أنه ــ ولو بفوارق بسيطة ــ اختار الفرنسيون ليصل إلى الدور الثانى المرشحين الأكثر وضوحا فى اختياراتهما، اللذين لم يبحثا عن حلول وسط، إما عولمة كاملة وإما اختيارات قومية تامة. ماكرون لا ينكر أن العولمة وتكامل عمليات الإنتاج فى العالم كان لها ضحايا بين العمال والمواطنين الفرنسيين عموما، ولكنه يدعو إلى علاجات من داخل منطق العولمة ذاته. اهتمام ماكرون بالقضايا الاجتماعية مع تمسكه بآليات العولمة الاقتصادية دعا كثيرا من المراقبين إلى اعتباره ليبراليا من المنظور الاقتصادى واشتراكيا من المنظور الاجتماعى. يتسق مع منظوره العولمى المبتعد عن النزعة القومية، تمسك ماكرون بالاتحاد الأوروبى ودعوته إلى مزيد من تعميق التكامل الأوروبى، بل وإدانته أثناء زيارته للجزائر فى أواخر إبريل، للاستعمار معتبرا إياه «جريمة ضد الإنسانية».
أولويات ماكرون، بالإضافة إلى عمله فى القصر الرئاسى الفرنسى ثم وزيرا للاقتصاد فيما بين 2014 و2016، جعل مارين لوبن تعتبره منتميا للاشتراكيين الفرنسيين ومسئولا عن سياسات كل حكومات أولاند، بل إنها ذهبت إلى أن تنسب إليه كل ما اعتبرته خطأ فى سياسات جميع الرؤساء والحكومات فى العقود الماضية، المنتمى منها إلى يسار وإلى يمين الوسط، باعتباره يمثل فى نظرها «المؤسسة الحاكمة». فى مقابل أولويات ماكرون، فإنك تجد أن لوبن داخليا تركِّز، ولا تملّ من التركيز، على محاربة كل من «الأصولية الإسلامية» والإرهاب، ووقف الهجرة، والكفّ عن تعليم لغات البلدان الأصلية للتلاميذ المهاجرين أو المواطنين ذوى الأصول المهاجرة البعيدة فى المدارس الفرنسية، كما أنها تريد سحب الجنسية الفرنسية من مزدوجى الجنسية المتورطين فى الإرهاب حتى وإن كانوا مولودين فى فرنسا، وهى تبغى الخروج من العملة الأوروبية الموحدة «اليورو»، بل والانسحاب من الاتحاد الأوروبى، وهى تريد حماية المنتجات الفرنسية والإبقاء على الإنتاج فى داخل الإقليم الفرنسى. ولوبن تهاجم ماكرون لأنه فى رأيها ليس معنيا بسلامة الفرنسيين وأمنهم مثلها، فيردّ هو أنه أكثر اهتماما منها بهما ولكنه يريد اتخاذ قرارات مبنية على تحليل عقلانى، فلقصور سياسات إدماج المهاجرين ونسلهم فى المجتمع الفرنسى مسئولية عن تطرف بعض المواطنين ذوى الأصول المهاجرة، وهو يتساءل هل يضير الإرهابى الانتحارى أن تسحب الجنسية منه!
المراقب يتساءل أين توجد الشقوق الحقيقية فى المجتمع الفرنسى وحول أى المسائل هى تتمحور. إن افترضنا أن الإرهاب الذى راح ضحيته مائتان وأربعون مواطنا فرنسيا منذ بداية العام 2015 لم يكن موجودا، هل كانت الشقوق تختفى ويبقى المجتمع موحدا فى منظوره للعالم؟ الشقوق الحقيقية تتمحور حول مزايا التكامل الأوروبى وعيوبه، وحول عيوب العولمة ومزاياها، وحول الفوارق الاجتماعية المترتبة على السياسات الاقتصادية النيوليبرالية. «الأصولية الإسلامية» فيها خروج على القيم الثقافية للمجتمع الفرنسى والمجتمعات الأوروبية عموما، ولكن لا هى ولا الإرهاب ما يزعزع أساسات هذه المجتمعات وتوحد منظورها للعالم. «الأصولية الإسلامية» والإرهاب هما فرصتان ذهبيتان التقطهما أقصى اليمين الفرنسى، والأوروبى معه، ليبث الخوف فى المجتمع وليروِّج لأطروحاته القومية ذات النزعة العنصرية، وهى أطروحات خطر على أوروبا نفسها، ويكفى للدلالة على ذلك ما أخذته لوبن على ماكرون فى مناظرتهما منذ أيام من «انبطاحه أمام ألمانيا» تارة و«انبطاحه أمام ميركل» تارة أخرى وهو ما ينبِّه إلى ما يمكن أن تئول إليه العلاقات فى القارة الأوروبية وخطر ذلك على العالم أجمع إن انتخبت لوبن وغيرها من ممثلى أقصى اليمين لتولى مقاليد بلدانهم.
***
الخبر السار حتى الآن هو أن الثقافة السياسية الفرنسية لم تتأثر لدى أغلب الناخبين بالنزعات الرجعية للوبن وأمثالها. فيّون وأمون دَعَوَا صراحة إلى الوقوف سدّا فى وجه لوبن بالتصويت فى الجولة الثانية لصالح ماكرون. ميلونشون لم يفعل مثلهما، وكثيرون من ناخبيه سيمتنعون عن التصويت بل وربما صوّت بعضهم لصالح لوبن، ولكن الكثيرين من اليساريين العتيدين بينهم سيصوتون لصالح ماكرون.
أغلب الظن أن ماكرون سيصبح الرئيس القادم للجمهورية الفرنسية. وشبابه فى صالحه فتجديد الحياة السياسية لازم فى كل البلاد، أقلّه ليمكن متابعة الإيقاع السريع للعولمة على أساس معطياتها الجديدة والمتجددة باستمرار.
من مصلحة بلداننا ألّا يشغل أى منغلق عنصرى منصب الرئاسة فى بلده. ولكن وفى الوقت ذاته، على ماكرون وأمثاله، أن يدركوا أنهم إن كانوا يرغبون حقا فى أن تسود العالمَ القيمُ المشتركة وثقافةٌ واحدة، فإن قواعد العولمة ظالمة لشعوب كثيرة فى البلدان النامية وهى تحتاج إلى إعادة نظر جذرية فى كثير من مجالاتها.
سحب البساط من تحت أقدام اليمين المنغلق والعنصرى فى فرنسا وأوروبا يقتضى علاج آفات العولمة، وهى أفات إن كانت تصيب المجتمعات المتقدمة فى أوروبا، فهى تلحق أضرارا أوسع منها نطاقا بشعوب البلدان النامية فى إفريقيا وآسيا، وفيهما العالم العربى، وفى أمريكا اللاتينية.
اليمين المتطرف والشعبوى فى كل مكان يريد أن يرجع بعجلة التاريخ إلى الوراء. عجلة التاريخ لن ترجع، ولكن علينا أن نشترك فى توجيهها إلى ما فيه مصالحنا.
إبراهيم عوض أستاذ السياسات العامة بالجامعة الأمريكية بالقاهرة
التعليقات