ليتعرف المسلم على مفهوم «الاستقامة» فى القرآن الكريم، يجب عليه أن يراجع كل مفردات هذا اللفظ الواردة فى القرآن، أو كما يقول أهل اللغة مراجعة كل المشتقات التى استعملها القرآن الكريم من الجذر اللغوى «قوم».

ــ1ــ
ففى القرآن نجد الفعل: (قام/ يقوم/ قم/ أقم)، وهذا فعل ثلاثى أجوف (وسطه حرف علة) وحروف العلة ثلاثة (أ، و، ى)، وتصريفات الفعل معتل الوسط يتغير فيها حرف العلة (قام/ يقوم)، (أقام، يقيم) إلخ. وسوف نجد فى القرآن كثيرا: أقم الصلاة / يقيمون الصلاة إلخ. وإقامة الصلاة تعنى أداء الصلاة صحيحة فى الزمان والمكان المناسبين وكأن الصلاة عملية باء محددة الحجم والزمان والمكان والشروط والمواصفات، فإقامة الصلاة مثل إقامة المنشآت وتثبيتها. ونجد أيضا قوله تعالى: ((وأقيموا الوزن بالقسط..)) أى اجعلوا الميزان والمكيال والمقياس وافيا صحيحا بلا نقصان. ونجد أيضا قوله تعالى: ((..وأقيموا الشهادة لله..)) أى اجعلوا الشهادة التى تشهدونها حقا قائما واضحا دون غموض أو احتمال فمن لم يتأكد من صحة مشاهدته فلا يشهد. وكذلك نجد قوله تعالى: ((..أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه..)) أى تعاونوا جميعا بلا تفرق فى التمسك بتعاليم الدين حتى يصبح الدين بناء شامخا محصنا يضمكم جميعا.. فأول معالم الاستقامة الملحوظة فى تلك الآيات تبين أن الاستقامة إنشاء وبناء ووضوح وشموخ واستمرار واجتماع.

ــ2ــ
ومن مشتقات الفعل أيضا قوله تعالى: ((..جدارا يريد أن ينقض فأقامه ۖ))، وإقامة الجدار المائل تعنى ترميمه وتجديده وتمكينه من البقاء وعدم السقوط. وأيضا يقول تعالى: ((وأن تقوموا لليتامىٰ بالقسط..))، وهذه الآية تفرض حفظ حقوق اليتامى ورعايتهم، فالإقامة هنا بمعنى الحفظ والرعاية، ويحكى القرآن أيضا: ((قل يا أهل الكتاب لستم على شىء حتى تقيموا التوراة والإنجيل..))، وهكذا يبين القرآن أن عدم الإقامة يعنى العدم، فهو يعلم أهل الكتاب ضرورة التمسك بالتوراة والإنجيل محافظة على وجوههم وعلى كرامتهم وإلا فهم ليسوا على شىء ــ أى بلا شىء متين حافظ. وهكذا يبدو المعلم الثانى من معالم الاستقامة: أن الاستقامة تعنى الإصلاح والصيانة والتقوية والحماية من الضياع.

ــ3ــ
وفى القرآن مشتق آخر ينقل الإقامة بمعانيها السابقة إلى معلم جديد هو «الاستقامة»، فترى فى القرآن «الصراط المستقيم»، «القسطاس المستقيم»، «هدى مستقيم»، «طريق مستقيم»، والصراط هو الطريق الواسعة الواضحة، والمستقيم هو المعتدل المباشر بين نقطة الوجود والهدف المنشود. فالصراط المستقيم هو الطريق المباشر الواضح الخالى من العثرات والآمن من الانحرافات والمفاجآت. والقسطاس المستقيم هو الوزن الوافى كما وكيفا وليس مجرد الكم أو الحجم بل مضمون المحتوى (الصنف) والميزان. و«الهدى المستقيم» فالهدى هو الدلالة الواضحة فإذا كان الهدى مستقيما فالمطلوب هو الدلالة المباشرة سهلة المأخذ والالتزام، أو الهدى الذى يعين صاحبه ولا يثقل عليه. وكذلك الطريق المستقيم هو الطريق المباشر بين نقطتين دون التواء أو تعريج. وهكذا يبدو المعلم الثالث من معالم الاستقامة وهو المباشرة وعدم الانحناء وقصر المسافة.

ــ4ــ
هكذا يساعدنا القرآن بلغته الإلهية ليعلمنا معنى الاستقامة ويحدد لها ثلاثة ضوابط كبرى هى: أ/ الإنشاء وارتفاع البنيان، ب/ الصيانة واستمرار الإصلاح والحماية، ج/ السرعة والانضباط والخلو من المعوقات.
يتبع