الاقتصاد فى السياسة الدولية - إبراهيم عوض - بوابة الشروق
الخميس 25 أبريل 2024 9:51 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الاقتصاد فى السياسة الدولية

نشر فى : السبت 2 يونيو 2018 - 9:35 م | آخر تحديث : السبت 2 يونيو 2018 - 9:35 م

موضوع هذا المقال هو استخدام أدوات الاقتصاد فى تحقيق أغراض سياسية وهو أيضا استخدام أدوات السياسة فى تحقيق أغراض اقتصادية. الهدف الأسمى المبتغى فى كل الحالات هو تعزيز القوة السياسية. المقصود باقتصاد أى دولة من الدول هنا هو مجمل الموارد الاقتصادية للدولة المعنية، وحصيلتها، وإنتاجها من السلع والخدمات، وتجارتها الدولية من صادرات وواردات، يضاف إليها المعرفة العلمية والقدرة التكنولوجية لهذه الدولة. أما السياسة الدولية، فالمقصود بها هو مجمل العلاقات التى تربط بين الدول بشأن القضايا الدولية والإقليمية والداخلية التى تجتمع هذه الدول أو تختلف بشأنها، وهى تشمل إلى جانب المسائل الإقليمية الملموسة العلاقات الاقتصادية فيما بين الدول وفيما بين الشركات والفاعلين غير الحكوميين فى كل منها. السياسة الدولية تتضمن أيضا الاتفاقيات والقواعد المنظمة للعلاقات بين أطرافها. القوة السياسية أخيرا يقصد بها ما تستخلصه دولة من الدول من تعاملاتها من نفوذ يمكنها من التأثير على قرارات بقية الدول المنخرطة فى السياسة الدولية وحملها على أن تسلك السبل التى تريد لها أن تختارها. يمكن التصدى لموضوعنا من زوايا عديدة ولكننا نتناول اليوم تداخل العلاقات السياسية والاقتصادية بين القوى الكبرى فى عالمنا، وننتهى ببضع كلمات عن حالتنا.
***
فى شهر مارس الماضى أعلن الرئيس الأمريكى دونالد ترامب عن عزم إدارته على فرض رسوم جمركية على وارداتها من الصلب والألومينيوم تبلغ 25 فى المائة على السلعة الأولى و10 فى المائة على الثانية، زاعما أن هذه الواردات تهدد الأمن القومى للولايات المتحدة ومستندا فى ذلك إلى المادة الحادية والعشرين من الاتفاقية العامة للتجارة والتعريفات لسنة 1947 التى تتيح للأطراف المتعاقدة اتخاذ «أى إجراءات تراها ضرورية لحماية مصالح أمنها الأساسية». اضطرب الأوروبيون من هذا الإعلان وناشد الاتحاد الأوروبى الولايات المتحدة إعادة النظر فيه، فكانت استجابة الولايات المتحدة أنها أعلنت عن مهلة تبلغ الأشهر الثلاثة، تعلن بعدها فى الأول من يونيو عما ستفعله بشأن الصادرات الأوروبية من السلعتين إليها. بعض المسئولين الأوروبيين تعجبوا لأن الصادرات الأوروبية من السلعتين ليست بالحجم الذى يهدد الأمن الأمريكى، ومنهم من اعتبر أن هذا «استعراض طفولى للقوة» وأنه مجرد ورقة انتخابية قبل انتخابات منتصف المدة فى شهر نوفمبر القادم. تساءل الأوروبيون عما سيفعله الرئيس الأمريكى، فهل يعفيهم من الرسوم؟ الرد جاءهم قبل الأول من يونيو بيوم واحد بفرض الرسوم كاملة عليهم، وعلى كندا والمكسيك، وهو ما أثار غضبهم الشديد وجعلهم يستعدون لفرض رسوم انتقامية على عدد من وارداتهم الأمريكية. الرئيس الأمريكى لم يتوقف عند الصلب والألومينيوم، فهو منذ أسبوع فتح معركة جديدة إذ طلب من مستشاريه أن يتحققوا مما إذا كانت واردات الولايات المتحدة من السيارات لا تهدد الأمن القومى الأمريكى، وهو ما يشى بتفكيره فى فرض رسوم جمركية جديدة على السيارات أيضا.
فيما بين هذين التاريخين، كان الرئيس الأمريكى قد لوح باستخدام أدوات الاقتصاد فى مجال سياسى تماما ألا وهو الاتفاق النووى المنعقد مع إيران والذى أعلن انسحاب الولايات المتحدة منه فى بداية الأسبوع الثانى من مايو. فى إعلان الانسحاب تهديد مباشر وتلويح هو بمثابة التهديد غير المباشر. ليس ما يعنينا اليوم التهديد المباشر الموجه لإيران وإنما التلويح بالعقوبات الثانوية التى ستفرض على كل الشركات والمصارف التى تتعامل معها. هذا تهديد غير مباشر للشركات الأوروبية التى عقدت الصفقات مع إيران واستعدت للاستثمار فيها. هذه البنوك والمصارف مهددة فى حال لم تقطع علاقاتها بإيران بأن يمنع عليها دخول السوق الأمريكية والتعامل بأى شكل من الأشكال مع المصارف والشركات الأمريكية. فى الصناعة العالمية الحالية حيث تنتشر سلاسل الإنتاج فى دول عديدة وقارات مختلفة، وحيث لا تنتج سلعة إلا بمدخلات من هنا وهناك وهنالك، يصعب على أى شركة كبرى أن تنتج من دون مورديها. وكلما ارتفعت القيمة المضافة لمنتج ما كان احتمال وجود مدخلات أمريكية فى صناعته أكبر. نأخذ طائرات «إيرباص» المنافسة للطائرات «بوينج» الأمريكية مثالا. فى الطائرات «إيرباص» مدخلات مصنوعة فى الولايات المتحدة، إن لم توافق الحكومة الأمريكية على تصديرها للشركة المنتجة، توقف إنتاجها. جون بولتون مستشار الرئيس الأمريكى للأمن القومى كان واضحا تماما عندما أعلن أن الولايات المتحدة ستستخدم كل قوتها التكنولوجية فى تطبيق العقوبات على إيران. فى هذا الصدد يذكر أن هناك من يعتقدون أن العقوبات غير المباشرة مقصودة فى حد ذاتها. فى أعقاب الاتفاق النووى الإيرانى فى يوليو 2015 وإسباغ الشرعية الدولية عليه بقرار صادر عن مجلس الأمن نص أيضا على الرفع التدريجى للعقوبات التى كان المجلس قد فرضها على إيران، سارعت الشركات الأوروبية، خاصة الفرنسية والألمانية، إلى إيران لعقد الصفقات معها وفيها، فالسوق الإيرانية واسعة وجذابة وفيها قوى عاملة يعتد بها. غير أن الولايات المتحدة لم ترفع العقوبات التى كانت قد فرضتها من جانب واحد على إيران، وبذلك لم تنزل الشركات الأمريكية بنفس شكل نظيراتها الأوروبية على السوق الإيرانية. ثمة من يقول أن من بين ما يقصده الرئيس الأمريكى بفرض العقوبات غير المباشرة أن يحرم المنافسين الأوروبيين من المزايا التى حققوها على نظرائهم الأمريكيين فى السوق الإيرانية. فى هذه الرؤية هو يريد أن تكون الولايات المتحدة أول المستفيدين من السوق الإيرانية عندما تنجح العقوبات فى تحقيق هدفه وهو الإطاحة بالنظام الإيرانى.
باستخدام أدوات الاقتصاد يعمل الرئيس الأمريكى على إخضاع حلفائه الأوروبيين وتعميق التراتبية فى التحالف الأطلسى وتبديد ما قد يكون قد تراءى للبعض عن المشاركة فى اتخاذ القرار داخل هذا التحالف. هذا تطور يعتد به فى السياسة الدولية إن قبله الأوروبيون، لأن غيرهم قد يستخلص من ذلك أنهم فى سبيلهم ولو بعد حين إلى أن يفقدوا تماما الوزن الذى كان لهم فى السياسة الدولية فى القرون الأخيرة. الرئيس الأمريكى يرمى إلى تعزيز قوته السياسية على حساب الأوروبيين ليستطيع تحقيق الأهداف التى يحددها هو وحده.
***
الطرفان الكبيران الآخران فى السياسة الدولية، وهما روسيا والصين، أمرهما مختلف. الاقتصاد الروسى ليس كثيف التشابك مع الاقتصاد الأمريكى، ولذلك فإن قدرة الولايات المتحدة على التأثير عليه محدودة. بل ربما انتفعت روسيا من العقوبات الثانوية، بأن تستفيد مثلا من سوق النفط والغاز الإيرانيين. علاوة على ذلك فلروسيا وزنها السياسى والعسكرى المستقل عن الولايات المتحدة والذى تستغله فى الشرق الأوسط مثلا، وهى منطقة تحرص الولايات المتحدة على عدم التصادم فيها مع روسيا. فى حالة روسيا، أدوات السياسة تنفعها فى الاقتصاد، فتضيف إلى قوتها السياسية.
الصين فى أقوى المواقف. عندما أعلن الرئيس الأمريكى عن الرسوم الجمركية على الصلب والألومينيوم، ردت هى بأنها يمكن أن تتخذ إجراءات انتقامية من الإنتاج الزراعى الأمريكى بفرض رسوم على وارداتها من فول الصويا مثلا، والولايات المتحدة هى أول مورديه إلى السوق الصينية. كان الرئيس الأمريكى قد هدد أيضا بفرض رسوم على ما يساوى 50 مليار دولار من الصادرات الصينية إلى السوق الأمريكية غير أن الطرفين الأمريكى والصينى توصلا إلى ما يشبه الهدنة، عندما وعدت الصين فى الأسبوع الثالث من مايو، مجرد وعد، بأن تشترى المزيد من المنتجات الأمريكية، الزراعية ومنتجات الطاقة خصوصا، دون أهداف محددة لهذا المزيد، وبأن تخفض الرسوم على وارداتها من السيارات. الولايات المتحدة تريد أن تتوصل إلى عقود متعددة السنوات تتقيد بها الصين. الولايات المتحدة فى وضع من يطلب من الصين. الفارق صارخ مع الأوروبيين الذين يتخوفون أيضا من أن تؤدى التفاهمات الأمريكية الصينية إلى تقلص السوق الصينية أمام منتجاتهم. الاعتماد المتبادل بين الولايات المتحدة والصين أكثر توازنا منه بينها وبين أوروبا. هل يمكن لأى طرف منهما أن ينسى أن استثمار الصين فى أذون الخزانة الأمريكية قد ارتفع فى عام 2017 وحده بمقدار 126,5 مليار دولار ليبلغ إجمالى هذا الاستثمار 1,18 تريليون دولار؟ هذا الاستثمار يدعم العملة الأمريكية ويسند مستوى المعيشة الأمريكى، وهو يكسب بذلك للصين قوة سياسية. فى حالة الصين، الاقتصاد أدى إلى قوة سياسية والقوة السياسية أفضت إلى مكاسب فى الاقتصاد.
***
المكسب المرحلى شىء والآثار بعيدة المدى على المكانة السياسية للولايات المتحدة شىء آخر. ولكن ما سبق كان عن الكبار فى كل من الاقتصاد والسياسة الدوليين. فماذا عنا نحن؟ للاقتصاد عمله أيضا فى السياسة الإقليمية. تصعد الدول وتهبط حسب حالة عوامل الاقتصاد فى كل منها. اقتصادات بلداننا العربية بسيطة فى بنيتها، والبارز فيها هى موارد النفط والغاز الطبيعى حيث توجد، وبالتحديد حيث يقترن وجودها بحجم محدود للسكان الوطنيين. الفائض من إيرادات النفط والغاز منح نفوذا لمن يملكونه فى المنطقة تناقصت فى مقابله قوة غيرهم الذين يعدمون مثل هذه الإيرادات ولا يوفرون بديلا عنها على اقتصادات متنوعة نشطة مرتفعة الإنتاجية والقيمة المضافة.
فى مصر، فى عصر المعلوماتية والذكاء الاصطناعى، لا بد أن نعيد بناء اقتصادنا على أساس العلم والمعرفة والابتكار. على هذا الأساس وحده وليس بالطوب والحجر سنرفع مستوى معيشة المائة مليون مصرى ونكفل لأنفسنا مكانا فى السياسة الإقليمية والدولية يعيننا على تحقيق أهدافنا.

إبراهيم عوض أستاذ السياسات العامة بالجامعة الأمريكية بالقاهرة
التعليقات