«الزوجة المكسيكية».. واقع يخلده الفن - محمود عبد الشكور - بوابة الشروق
الأربعاء 24 أبريل 2024 3:32 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

«الزوجة المكسيكية».. واقع يخلده الفن

نشر فى : الخميس 1 نوفمبر 2018 - 8:05 م | آخر تحديث : الخميس 1 نوفمبر 2018 - 8:05 م

ليست رواية عادية ولا عابرة. «الزوجة المكسيكية» لمؤلفها د.إيمان يحيى، (والصادرة عن دار الشروق)، لا تستحضر واقعة مهمة ومنسية فى حياة يوسف إدريس فحسب، ولا هى تحاول فقط اكتشاف ما وراء كتابة عمل مهم فى مسيرة إدريس هو رواية «البيضاء»، ولكنها تطرح أسئلة خطيرة عن الفن والثورة والحرية، عن جيل الخمسينيات الذى تعذب بموهبته، وبأحلامه، وبطموحه، تطرح أيضا أسئلة عن علاقة الفنان بالواقع، وبالسياسة، وبالأفكار الكبرى التى يدافع عنها.
طبقات من الأفكار تمنح الرواية ثراء مدهشا، وطبقات من حيل السرد اللامعة، تتيح لمؤلفها أن ينتقل بأبطاله عبر مساحة زمنية شاسعة، وعبر مستويات مختلفة من وجهات النظر، وبطريقة ذكية تمزج الواقع بالخيال، رواية فى قلب رواية، وتحقيق تاريخى يخدم سردا خياليا، وغموض الوقائع، يكشفه مكر الرواية والرواة، فلا الفن يموت، ولا الفنان أيضا يموت. أتوقع لهذه الرواية الظهور فى قوائم أفضل الجوائز الأدبية، مصريا وعربيا، وأن تنافس عليها.
أسوأ قراءة للرواية أن يقال إنها مجرد اكتشاف لامرأة مكسيكية تزوجها يوسف إدريس، بعد قصة حب حقيقية ثم انفصل عنها، وهى ابنة فنان الجداريات الشهير «دييجو أوليفيرا»، وبعد الانفصال استلهم إدريس شخصيتها فى «البيضاء»، هذا الاكتشاف موجود فى الرواية بالمعلومات، بل وبصور الزوجة روث، وبتفاصيل خطوات البحث والوصول.
ولكن الرواية تستمد قيمتها مما هو أكثر أهمية: من قدرة مؤلفها على تحويل البحث والاكتشاف إلى فن، أى بمعنى أدق القدرة على تحويل الواقعة إلى واقع فنى، كجزء من بناء، ينطلق من الخاص والمحدود، إلى وصف الأجواء التى ولدت فيها رواية «البيضاء».
يمكن القول أيضا إن د.إيمان يحيى لم يتمثل عالم إدريس الروائى، ومعالم شخصيته المتفجرة فحسب، ولكنه أعاد لعبة «البيضاء» فى ظلها الروائى، فإذا كانت «البيضاء» كتبت بإلهام من شخصية حقيقية، وتجربة حب لا تنسى، فإن «الزوجة المكسيكية» كتبت بوحى اكتشاف واقعة زواج إدريس من روث.
لا «البيضاء» قيمتها فى أصلها الواقعى فقط، ولا «الزوجة المكسيكية» قيمتها فى اكتشاف زواج أديب مصرى كبير من ابنه فنان تشكيلى مكسيكى كبير، ولكن قيمتهما فى تحويل الوقائع إلى فن، يوسع دائرة الرؤية، ويمنح شخصياته خلودا وبقاء، ويمزج الواقع بالخيال فى سبيكة واحدة.
إنها رواية ناضجة لأن مؤلفها يعى طوال الوقت أن دهشة اكتشاف المعلومات والصور، لابد أن يساندها بناء روائى محكم، يستدعى علاقة حب قديمة بين اثنين من عالمين مختلفين، رغم الإيمان بقيم مشتركة، فنراها فى تنويعة جديدة فى صورة علاقة بين سامى، أستاذ الأدب الباحث عن سر روث، وسامنتا تلميذته الشابة فى الجامعة الأمريكية فى القاهرة، فى السنوات الأخيرة لحكم مبارك، وهى سنوات تذكرنا بسنوات الاضطرابات فى فترة ما بعد تسلم الضباط السلطة فى العام 1952، سامى البعيد عن التنظيمات السياسية، يخالف نظرة يحيى/ إدريس الأولى كناشط سرى دفع الثمن، وغير نظرته بعد السجن، وسامنتا وروث تفشلان فى البقاء فى مصر، رغم الحب، وحسن النوايا، والأحلام بالتغيير.
يدرك المؤلف أن شخوص «البيضاء» لهم أصول من الواقع، فيستعيرهم بأسمائهم، بمن فيهم يحيى، معادل إدريس، ويدمج معهم شخصيات حقيقية بأسمائهم مثل روث وأوليفيرا وعبدالرحمن الخميسى وتحية كاريوكا.. الخ، تنمحى المسافة بين واقع الشخصيات، ومعادلها الروائى، وتدخل نصوص «البيضاء» وشخوصها فى نصوص رواية عن أجواء تأليف «البيضاء»، بل فى نصوص روايتين: أولها عن بحث أستاذ جامعى وتلميذته عن روث، والثانية عما كتبه الأستاذ كرواية، استلهاما من رحلة بحثه، واقعا وخيالا.
شكل السرد فى صميم معنى الرواية: الواقع ألهم إدريس برواية، والرواية فتحت الباب بدورها للبحث عن الواقع المجهول، فنشأت رواية جديدة، لولا «البيضاء» ما بدأ الخيط الأول للكشف عن روث، ولولا الكشف عن روث ما ولدت «الزوجة المكسيكية»، واقع يفرز فنا، فيكشف الفن واقعا من جديد، والواقع المكتشف يلهم بفن جديد وهكذا. قصة حب؟ نعم هى كذلك، ولكن مأزق الشخصيات أعمق وأكبر، إنها أزمة فنانين ومثقفين فى التعامل مع واقع، خذلهم تغييره، فكتبوا عنه فنا عظيما.

محمود عبد الشكور كاتب وناقد سينمائي وأدبي مصري
التعليقات