صافيني مرة - نيفين مسعد - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 7:11 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

صافيني مرة

نشر فى : الخميس 1 نوفمبر 2018 - 8:20 م | آخر تحديث : الخميس 1 نوفمبر 2018 - 8:20 م

ها هو الكاتب الكبير نعيم صبري يعود في أحدث رواياته "صافيني مرة" ليكتب عن شبرا وأهلها بعد رائعته الروائية "شبرا" التي قدمت لي قلمه للمرة الأولى ومن بعدها صرت أقرأ له بشغف. في روايته الأولى عن شبرا تناول نعيم صبري قضية التنوع الديني واللغوي في مصر منتصف القرن الماضي وكيف أدارها المجتمع بدرجة عالية من التسامح والتفهم، وفي روايته الثانية "صافيني مرة" التي دارت معظم أحداثها بين شوارع حي شبرا صارت قضيته هي صدمة جيل الثورة بعد هزيمة ١٩٦٧، هذا الجيل الذي بنى آمالا لامست حد السماء ثم هوت آماله من عل بعد الهزيمة ففقد توازنه وتشابهت عليه السبل. قضيتان مختلفتان مسرحهما شبرا وكأن شبرا قادرة دائما على اختزال قضايا مصر الكبرى، وهذا صحيح فشبرا بمسلميها ومسيحييها هي الأكثر تعبيرا عن الشخصية المصرية.
***
يحب كاتبنا الكبير اسم نبيل، ففي رواية "شبرا" كانت البطلة هي نبيلة الشابة المسلمة التي تزوجت الشاب المسيحي سعيد بعد أن أشهر إسلامه، وفي رواية "صافيني مرة " كان البطل هو نبيل حنا الشاب المسيحي الذي فقد أخيه ميشيل كما فقد صديقه مصطفى أخيه صلاح، مات ميشيل بعد عودته من حرب اليمن التي أضعفت مقاومته فلم يصمد أمام الحمى الشوكية التي هاجمته، ومات صلاح بعد خروجه من المعتقل الذي دخله كما دخله شيوعيون كثيرون في الخمسينيات، هكذا يتلقى القارئ رسالة واضحة عن سلبيات حكم عبد الناصر سواء سلّمنا بوجود علاقة بين الحمى الشوكية التي أصابت ميشيل وتجربته في حرب اليمن أم لم نسلّم. لكن نبيل لم يستطع أن يكره عبد الناصر، أو هو في الأصل لم يحاول ذلك فانحيازه للقضايا التي دافع عنها عبد الناصر من أول العدالة الاجتماعية وحتى استقلال الإرادة الوطنية واضح في الرواية. هو أيضا لم يقطع أبدا مع الوفد فقد كانت حكايات جده عن الزعامات الوفدية كفيلة بأن ترسم في ذهنه صورة إيجابية عن دور الوفد في الحياة السياسية المصرية، هل هذه الموضوعية هي جزء من توازن الشخصية الشبراوية بشكل عام ؟ ربما.
***

مع التسليم بوطأة هزيمة ١٩٦٧ على الجيل الذي عاصرها، بدت لي شخصية نبيل حنا بطل الرواية مناسبة للتأثر بهذا الحدث الجلل أكثر من غيرها. شاب جرّب كل شيء ولم يتفوق في شيء، جرّب كرة القدم والتنس والسباحة لكن لم تستهوه جميعا فانصرف عنها، دخل كلية الهندسة حبا في الرياضيات فاكتشف أن المسألة ليست بالبساطة التي كان يظنها ففي الأمر ميكانيكا وهندسة ميكانيكية وما أدراك ما هما فرسب وتعثر وتخلف عن زملائه، أثار تساؤلات كبرى حول الدين الموروث وخشى أن يدفع ثمن تمرده، دخل في علاقات نسائية لا أول لها ولا آخر ولم يحتفظ بأي منها لأنه كان يسيئ الاختيار ولأنه لم يعرف الحب الحقيقي، فحتى حبه لهالة زميلته في الكلية كان أقرب ما يكون للمجاملة منه للحب. نأتي للمسرح عشقه الأول وربما الوحيد، هذا العشق الذي لم يتبدل أبدا فمنذ دفعه أستاذ محمود مدرس التاريخ بمدرسة التوفيقية إلى خشبة المسرح ليمثل دور الكابتن أدولف في مسرحية "الأب" لستراندبرج وهو يشعر أن المسرح هو كل حياته، ويشعر أنه الشيء الوحيد الذي يهّون عليه خيباته المتتالية داخل الكلية وخارجها ، ومع ذلك فإن هذا العشق لم يؤهله أبدا كي يلعب دور البطولة في أي من المسرحيات التي شارك فيها، هل كانت موهبته أقل مما يجب؟ غير معروف لكن المعروف هو أنه ظل يلعب أدوار البطولة الثانية ولعله لم يصبح بطلا أول إلا في رواية "صافيني مرة" .
***
اختار نعيم صبري أغنية "صافيني مرة "لعبد الحليم حافظ عنوانا لروايته لأن حليم كان هو أيقونة جيل نبيل، فمع أن مطربين كُثُر لمعت أسماؤهم مع ثورة يوليو إلا أن العندليب كان الأكثر تعبيرا عن هذه المرحلة ليس فقط سياسيا لكن أيضا عاطفيا، فسماوات عبد الحليم كانت مفتوحة سواء بسواء لمن يريد أن يحلق مع السد العالي والتصنيع الثقيل ولمن يريد أن يعانق أصحابه وأهله وخلاّنه مع أول حب يخفق له قلبه. ومن يُقَدَر له أن يقرأ الرواية من أبناء جيل نبيل فلابد أن حنينا طاغيا سيأخذه إلى بعض تفاصيل هذه المرحلة، ففيها ما يدعو للابتسام كما في حكاية الجنيه الذي كان يشتري مائة بيضة بالتمام والكمال، وفيها ما يخلع القلب كما في اعتياد أسرة نبيل حنا على سماع قرآن الثامنة والنصف بصوت الشيخ مصطفى إسماعيل فهذه هي شبرا بل هذه كانت مصر. شخصيا من فرط التوحد مع بعض تفاصيل هذه الرواية كدت أشير لسطور معينة قائلة هذه أنا، فمثل نبيل عشت أيام صفارات الإنذار والحوائط أمام العمارات السكنية في ١٩٦٧ وكانت شقتنا في الطابق الأرضي تستقبل سكان الأدوار العليا.
***
مَزَجَ الكاتب في روايته بين الفصحى والعامية وإن كانت هذه الظاهرة تناقصت بوضوح في النصف الثاني من الرواية حيث اختفت أو كادت الكلمات العامية، ولعل ذلك له علاقة بانتقال نبيل من مرحلة الصبا والتلقائية إلى مرحلة النضج والتروي. أما ما استشعرتُه من لهاث الكاتب في سرد الأحداث السياسية والاجتماعية فقد لازم الرواية من بدايتها إلي نهايتها، وأظن أن تلك الأحداث لو أخذت حقها في الحكي والتفصيل لأضيفت بضع عشرات من الصفحات إلى الرواية.
***
إن متعة قراءة "صافيني مرة "بالنسبة لي كانت مضاعفة، فلقد استمتعت بقراءتها لأنها عمل إبداعي محترم جدير بالاحتفاء به، واستمتعت بقراءتها أيضا لأنها وصلتني مع مرحلة عزيزة من زماني ولعلها حتى المرحلة الأعّز على الإطلاق .

نيفين مسعد أستاذة بكليّة الاقتصاد والعلوم السياسيّة جامعة القاهرة. عضو حاليّ فى المجلس القوميّ لحقوق الإنسان. شغلت سابقاً منصب وكيلة معهد البحوث والدراسات العربيّة ثمّ مديرته. وهي أيضاً عضو سابق فى المجلس القوميّ للمرأة. حائزة على درجتي الماجستير والدكتوراه من كليّة الاقتصاد والعلوم السياسيّة – جامعة القاهرة، ومتخصّصة فى فرع السياسة المقارنة وبشكلٍ أخصّ في النظم السياسيّة العربيّة. عضو اللجنة التنفيذية ومجلس أمناء مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت. عضو لجنة الاقتصاد والعلوم السياسية بالمجلس الأعلى للثقافة. عضو الهيئة الاستشارية بمجلات المستقبل العربي والسياسة الدولية والديمقراطية
التعليقات