كَبير الطُهاة - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الخميس 25 أبريل 2024 6:34 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

كَبير الطُهاة

نشر فى : الجمعة 1 يونيو 2018 - 10:10 م | آخر تحديث : الجمعة 1 يونيو 2018 - 10:10 م

جالسة في مَطعم ومِن حولي عشرات الأشخاص؛ فرادى وعائلات، كلٌّ مُستقر على مقعده، ينتظر لحظةَ انطلاق المدفع أو سماع صوت الأذان بفارغ صبرٍ، مُتأهبًا لالتهام الطعام؛ وقد راح عدد مِن الشبان والشابات يتحركون بين الزبائن، يحملون على أكفّهم صحونَ السلاطة المتنوعة، ويوزعونها فوق الطاولات، في حركة عشوائية لا تحمل أي نظام.

***

كعادة عديد المطاعم في شهر رمضان، لا يُتاح للزبائن طلبُ أطباق عادية، بل يختارون مِن قائمة مُعدة خصيصًا للإفطار، تحملُ وجباتٍ مُحددة لا يقدم المكان غيرها، رغم هذا، ورغم الحجز المُسبق والتأكيدات المُتتالية على مدار أيام؛ احتلَّت الطاولة التي جلست إليها مع بعض المعارف والأصدقاء، وجباتٌ لم نطلبها، وأخرى طلبناها فجاءت ينقصها صنفٌ أو أكثر، وثالثة راحت طيَّ النسيان، فيما ظهرت مشروبات توسلنا أن تخلو مِن قطع الثلج؛ فحفلت بكُتل منه. حاولنا استدراك الأخطاء؛ فخاطبنا شاب، وبعد قليل شابة، ثم آخر وأخرى، لكن شيئًا لم يتبدل؛ وكأن شكوانا تتبخر في الهواء مع حمّى الانقضاض على الطعام.

***

كادت الأمسيةُ تتطور إلى شد وجذب وعلا الصوت، ووصل الأمر مع غياب أية استجابة إلى شفا الاشتباك، لولا أن انشقت الأرض عن رجل في أواسط العمر؛ عَرَّف نفسه بأنه كبير الطُهاة. تلقى الشحنةَ الأولى مِن الغضب في مرونة وبشاشة، ثم إذا به يصلح ما أفسد الآخرون؛ فيبدل الأطباقَ بأفضل منها، ويستكمل النواقصَ، ويُعدّل المشروبات، حتى استقرت المائدة كما قُدِّر لها في سرعة مُذهلة؛ قلبت ثورة الجائعين منا رضاءً، واستبدلت بسخطهم استحسانًا وإعجابًا.

***

استخدم كبير الطهاة فنونَ السياسة وحيلها، وأدواتِ الدبلوماسية وخدعها؛ ابتسامة مُهذبة تُكلِّل ملامحه منذ اللحظة الأولى ولا تفارقها، انتباه تام للشكاوى المُتلاحقة وإن خرجت مِن الألسنة في عباراتٍ حادة مُتوترة، إيماءات مُتفهّمة، وهزّات رأس مُوافقة مُطمئنة، وكلمات قليلة جدًا؛ لا تجادل في حجم الخطأ، ولا تتهرب مِن المسئولية؛ بل تعد بحلٍّ فوريّ، على أكمل ما يكون.

***

الرجل الذي أبدى مهارته في إدارة الموقفِ العصيب، كان شديدَ المهارة في صنعته أيضًا؛ مذاق مُنضبط لا يحتاج إلى تدخُّل ولو بقليل مِن ملح أو فلفل، درجة نُضج مَوزونة ومُستساغة مِن الجميع، ومَظهر أنيق وشهيّ.
ثمّة مهارات مُكتسبة مِن خبرات الحياة وتجاربها، وأخرى ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالشخصية وسماتها. كبير الطهاة؛ قد يدفعه مَنصبه لغرور وصَلف، وقد يؤهله لزهو وترفُّع عن صغائر مُتكررة لا تعنيه، وقد تحثه شخصيتُه ويدلُّه ذكاؤه على الإتيان بالنقيض. مَسارات مُتعددة، وسلوكيات مُتنافرة، والعبرة كما يقول المأثور؛ بالخواتيم.
***
في السياسة كما في الطهي وفي شؤون الحياة كافة؛ ثمّة مَن يمتلك مهارات الإقناع والتفاوض مُستخدمًا عقله، ومَن لا يستخدم إلا قبضتيه. ثمّة مَن يفسد الطبخة بتسرعِه، ومَن يترك مكوناتَها تنضج فوق نيران هادئة؛ مَن يحرق الطعام، ومَن يُكسِبه مَذاق الشواءَ الأصيل. ثمّة مَن تحركه مَطامعه لإضافة بهارات لا حاجة إليها، ومَن يعرف جيدًا أين ومتى يتوقف عن الإضافات، أما عن الآكلين؛ فبينهم مَن يبتلع اللقيمات سريعًا، دون أن يعطي فرصة لأسنانه كي تمضُغَ، وللسانه كي يستطعم ويتذوَّق، وللُعابه كي يهضم، وبينهم مَن يتأنى ويتروّى ليحكُم على ما وضع في جوفه؛ فيكره أو يستمتع. مِن الناس مَن تحرضه شهوتُه وتوجه مسلكَه، ومَن يستطيع التحكُّم فيها.

***

في قاموس التعبيرات الشعبية الأصيلة التي تحمل مجازًا لا يمكن إغفاله؛ هناك مَن "يأكلها والعة"، ومَن يتركها لتهدأ، وتنصرف عنها الأدخنة والأبخرة والغيوم. النوع الأول غالبًا ما يُصاب بعسر الهضم خلال فترة وجيزة، ولا يتمكن مِن الاستمرار على المنوال ذاته، أما النوع الثاني فعمره أطول واحتمالات بقاءه أكبر.

***
قررت أن أكتب مُمتنَّة عن الطاهي الحكيم؛ الذي امتصَّ الضيق، واحتوى الأزمة، وأزال استياء الجالسين، واحتفظ لزملائه ومرؤوسيه بماء الوجه، وكفاهم شرَّ عقاب لاحق؛ لعله يقرأ ويتذكر ويعجبه الأمر، فيكرره مَرة بعد مَرة.

بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات