التمييز بين لعبة السياسة والقيم الإنسانية

علي محمد فخرو
علي محمد فخرو

آخر تحديث: الخميس 30 يوليه 2015 - 9:20 ص بتوقيت القاهرة

ما يجب أن يدركه قادة الحكم فى بلاد العرب، وأن يدركه على الأخص من يقدٍمون النصح والمشورة لأولئك القادة، أن الشعوب تستطيع ممارسة الصبر والانتظار بالنسبة لبعض المظالم والمطالب السياسية.

فهى تستطيع أن تتحُمل، مع كثير من التململ، التباطؤ فى الانتقال إلى نظام ديمقراطى عادل وحقيقى غير مزيف، إذ تدرك أن الوصول إلى كذا ديمقراطية يحتاج إلى نضال قاس مرير، وأن الطريق إلى تلك الديمقراطية طويل ومتعرج لكل المجتمعات البشرية.

وهى، أى الشعوب، تستطيع أن تتحمل الفروق الجائرة فى الثروة والجاه والسلطة بين أقلية تهيمن وأكثرية تعانى وتكافح، إذ تدرك الشعوب وتأمل بأن الزمن، طال أو قصُر، بعد مائة سنة أو ألف عام، سينهى أية فروق غير عادلة. فوعى الإنسان وقدراته فى نمو دائم ونضج متراكم، وستفرض القيم الإنسانية ارادتها على القيم الأنانية الظالمة التى حكمت ولاتزال تحكم طول العالم وعرضه.

الشعوب تستطيع الصبر والانتظار على تأجيل أحلامها الكبرى لأنها تعلم بأن ممارسات الاستبداد والظلم وآلام وفواجع القوانين الجائرة والفساد والنهب موزعة فيما بين الخلق كلهم، وأن مواجهتها هى من مسئولية الجميع لأنها تمس الجميع.

لكن تلك المظالم التى تطال الجميع تختلف جذريا عن التمييز الموجه إلى فرد أو مجموعة أفراد. نحن هنا أمام ظلم يفعل فعله الموجع والمدمر فى الواقع الحاضر، وفى الحال. فالإنسان الذى يحرم من خدمات صحية أو تعليمية من حقه كمواطن، والإنسان الذى يحرم من الحصول على مكافأة يستحقها، والإنسان الذى يميز ضده فى الحصول على وظيفة أو سكن ويقدُم غيره عليه... هذا الإنسان لا يواجه مشكلة تستطيع الانتظار أو التأجيل لحين حلُها. إنه يواجه فرصة قد ضاعت وحقا قد سلب وحاضرا دمر.

فلنتصور شابا، من عائلة محدودة الدخل، عاش طيلة سنين طفولته ودراسته فى المدرسة وهو يحلم بأن يحصل على بعثة دراسية ليصبح مهندسا أو طبيبا أو عالما أو محاميا. لقد اجتهد، وأبدع فى دراسته، وحلم مع أفراد أسرته بالخروج من ضنك العيش ومغالبة متاعب الحياة. حتى إذا جاء يوم الحصاد والمكافأة واجه واقع التمييز ضد حقه فى المكافأة بسبب كونه فردا من هذه القبيلة أو الطائفة أو الدين أو الأصول العرقية، أو كونه فردا من هذه المدينة أو تلك القرية.

•••

لا حاجة للقول بأننا فى تلك اللحظة أمام مأساة فردية تدمٍر الحاضر وتشوٍه المستقبل وتغلق أبواب الأمل وتقتل الأحلام التى ترعرعت عبر السنين، أحلام ذلك الإنسان وأحلام محبيه ممن ارتبطت حياتهم بحياته.

لا يمكن الحديث هنا عن الزمن الذى سيحلُ هذه المشكلة. إن الزمن سيحلُ مشاكل آخرين سيأتون بعده، لكنُه لن يحل مشكلة هذا الفرد إياه فى هذه اللحظة إياها.

هذا الوضع الظالم التمييزى العبثى ينطبق أيضا على الشابة التى حلمت بالحصول على وظيفة معقولة محترمة بعد تخرجها فى الجامعة لتكتشف أن التمييز قد اعطى وظيفتها التى تستحقها لغيرها بسبب الانتماء لجماعة أو دين أو مذهب أو جهة.

وهو نفس الوضع بالنسبة لشاب يريد الزواج والعائلة التى حلم طيلة حياته ببنائها، ولكنه لا يستطيع بسبب عدم حصوله على مسكن أعطى لغيره دون وجه حق وبسبب مفاضلة تمييزية جائرة.

فى جميع تلك الحالات نحن أمام ممارسات ظالمة شرٍيرة تئد الأحلام وتدمٍر الحاضر وتسد آفاق المستقبل.

هل من حقنا أن نلوم عند ذاك هذا الشاب أو تلك الشابة إن هما توجُها إلى أقصى درجات الغضب، واليأس من العدالة والشك فى كل القيم، والالتحاق بجماعات التطرُف والعنف العبثي؟

التمييز إذن لا يمكن الحديث عنه فى صيغة المستقبل وفى الوعود بالحلول الآتية من الشفق البعيد.

التمييز ليس موضوعا سياسيا يقبل التفاوض والأخذ والعطاء والحلول الوسط. ولا يمكن الحديث عن الصبر على نصف أو ربع تمييز بانتظار ما سيأتى به الغد. وهو ليس نصف موت، إنه موت وجودى كام.

إذ عندما يدمر الحاضر وتسدُ أبواب المستقل وينحر الطُموح وتذوى الأحلام فإن الحديث عن أيٍ نوع من الوجود هو وهم وعبث بائس.

ستحسن سلطات الحكم ومستشاروها صنعا إذا أدركوا حساسية وعمق الفرق الفلسفى والقيمى بين ممارسة السياسة وممارسة التمييز، فالأخير هو موضوع إنسانى وجودى يعطى البعض على حساب وحقوق البعض، يدمٌر حاضر البعض من أجل فتح أبواب المستقبل للبعض الآخر. هذه ليست لعبة سياسية وليس لها مكان فى قاموس السياسة. إنها لعبة شيطانية تهزأ بالقيم والأخلاق وعدالة السماء وضرورة تحكيم الضمير.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved