حبى له بسيط

تمارا الرفاعي
تمارا الرفاعي

آخر تحديث: الأربعاء 26 أكتوبر 2016 - 9:20 م بتوقيت القاهرة

سأل أحدهم مرة كاتبا فرنسيا كبيرا عن سر عمق الصداقة التى تربطه بكاتب آخر فأجاب «لأننى كنت أنا ولأنه كان هو».. هكذا ببساطة، رغم قدرته ككاتب أن يملأ صفحات بأكملها يصف فيها مشاعره ومتاهات الصداقة وتضاريس العواطف ومراحل نضجها.

أنا أيضا حبى بسيط ولا يحتاج إلى الصفحات، لا يحتاج تحليلات معقدة وسرديات مركبة، ولا يحتاج إلى محللين نفسيين يربطون بين الحاضر والماضى ويخرجون الأشباح من داخلى ليعلنوا لى حبى البسيط.

***
حبى له أبسط من ذلك بكثير، حبى له هو أن أبتسم فى سرى وأنا أتذكر نصف ابتسامته حين يعرف أننى أحاول التحايل عليه، ولكنه يمشى معى فى رغبتى فيلبيها. حبى له هو أن أرفع حاجبى مستغربة جملة يقولها أحدهم، وألاحظ أن رفعة حاجبى هى من خصله وأننى أخذتها منه. حبى له هو حين نجلس ليلا كل منا على كنبة ولا نتحدث بالضرورة، فيمسك أحدنا كتابا وينقر الآخر على جهاز الكمبيوتر خاصته، ثم نرفع رأسينا فى الوقت ذاته لنسأل سؤالا ونكمل حديثا لا ينتهى، فهو حديث ليالى الصمت والكلام تمتد حلقاته كالمسلسلات الطويلة، فتتداخل فيها القصص والسياسة والأحاديث العابرة والخطط المستقبلية.

حبى له هو أن أتذكر أول أيامنا معا فلا أتمنى أن أغير فيها شيئا، أتذكر سنواتنا التالية ولا أتمنى أن أمحى منها يوما واحدا حتى أيام مرضه التى أوقفت حياته لعدة شهور، ففى تلك الأيام كنت أنظر إليه وهو ينام فينعصر قلبى حبا له وألما لألمه، هى أيام اكتشفت فيها أن صبره على الصعاب غير محدود، وأن لديه قدرة عجيبة على التواصل مع جسده وفهم ما ينفعه وما يضره. أما أنا فقدرتى على تحمل المرض محدودة، كما عرفت حين اضطررت أن ألزم السرير، وأمسك هو بيدى من مكان جلوسه على الكرسى فى المستشفى.

***
حبى له لا عصر له ولا مكان، أنقله فى قلبى حيثما ذهبت فأراه جالسا قربى فى صالة سينما، أو أرى وجهه فى طابور المسافرين حين أسافر وحدى. أحدثه فى سرى فى غيابه وأصمت حين يكون قربى لأنه يعرف ما سأقول، لا أجلس فى كرسيه المفضل حين يكون بعيدا لكننى أتنازع معه على الكرسى نفسه حين يكون فى البيت. حبى له هو أننى أحصر نفسى فى طرفى من السرير فى غيابه فلا أخرج عن منتصفه ويبقى مكانه هو فارغا، رغم أننى أقول له دوما أننى سأحتل السرير بأكمله حين يسافر لكننى لا أفعل، ثم أتسلل نحو جانبه فى حضوره فأنظر إليه وأتأمله وهو نائم.

حبى له بسيط كيوم عادى نصحو فيه باكرا ككل الأيام على صوت أحد أولادنا وهو يحاول إيقاظ الآخرين، لحظات وتملأ رائحة القهوة المكان المكتظ بحركة الدقائق الأخيرة قبل الخروج من المنزل، حبى له هو حب كل يوم من هذه الأيام التى أخرج فيها مع الأولاد لأرافقهم حتى باب المدرسة، ويتجه هو إلى طاولة الكتابة بينما أواصل أنا إلى مكتبى. قد يكون يوما عاديا تظهر فيه الشمس من بين أغصان شجرة كبيرة نمت أمام شباك غرفة الجلوس، فيقع الضوء على الكرسى تارة وعلى الطاولة تارة أخرى، فى لعبة استغماية تلعبها الشمس مع أثاث المنزل فى غيابنا، حتى نعود بعد العمل فننشغل بالأولاد وبالتفاصيل اليومية التى تتكرر حتى يهيأ لى أننا بتنا لا نلاحظها. ثم يهدأ البيت ونجلس معا نتحدث. حبى له هو أن يأخذنى النوم قليلا أثناء الحديث ثم أفتح عينى فأراه ما زال جالسا أمامى ينظر إليّ. يطلب منى أن أكمل نومى لكنى أريد أن أكمل حديثنا، فكل يوم عادى أراه رائعا بعدم استثنائيته: هكذا أريدنا أن نبقى، فى غرفة مكتظة بالكتب وقت المساء، بعد أن ينام الأطفال لكن قبل أن أنطفئ أنا من التعب.

حبى له هو أن أتخيل أننا نمشى فى شارع مدينة أحببناها معا، قد تكون القاهرة أو دمشق أو بيروت أو ربما نيويورك، اليوم يجب أن يكون خريفيا بامتياز، ألوانه برتقالية وهواؤه بارد، يدى فى يده نتوجه نحو جامعة أحد أولادنا لنلقاه خلال استراحة الغذاء، المشهد يحدث بعد عشرين سنة من اليوم ونحن ما زلنا نتناقش فى السياسة والشأن العام، ما زال يضحك حين أخبره عن صديقة مزعجة ومازال يطلب منى أن أتفهم تصرفها، ما زلت أطلب منه أن يتوقف عن التدخين، وهو ما زال يجيبنى أنه يدخن فى المناسبات فقط، «وما المناسبة الآن ونحن فى الشارع فى يوم عادى؟» أسأله كنوع من تسجيل نقطة فى نقاش عمره ثلاثون عاما. «المناسبة هى أننا سعداء فى يوم رائع شمسه تلعب معنا من بين الغيوم، يوم أمشى معك لنلتقى ابننا الأكبر»، يجيبنى وعلى وجهه نصف الابتسامة التى لطالما ارتداها أثناء نقاشات أردتها جدية ونجح هو فى جعلها خفيفة.

***
حبى له هو أننى فى مثل هذا اليوم من كل عام أقول له إنه لو طلب منى الزواج مرة أخرى فجوابى سوف يبقى نفس الجواب: نعم.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved