الخصلة البيضاء

نيفين مسعد
نيفين مسعد

آخر تحديث: الخميس 25 أكتوبر 2018 - 10:45 م بتوقيت القاهرة

هذه الخصلة البيضاء حكايتها حكاية فهي كمثل باقة صغيرة من الياسمين الناصع كانت تقف وحيدة في وسط غابة مظلمة، ولأنها كذلك فلقد صارت الملمح الأبرز في التعريف بصاحبتها، فإن أنت أردت أن تصف فوقية هانم لن تذكر علي الأرجح أنها في العقد الخامس من عمرها أو أنها متوسطة القامة أو أنها تميل إلى البدانة دون إفراط، فهذه كلها أوصاف تنطبق علي الملايين من النساء، لكنك غالبا ستقول إنها المرأة ذات الخصلة البيضاء في مفرقها. خصلة من عدد قليل من الشعيرات كيف نبتت لا تدري صاحبتها علي وجه الدقة، لكنها حين نظرت في المرآة قبل عامين فاجأها ظهور شعرة بيضاء فثانية فثالثة فعاشرة ثم توقف العدّ بعدها، تحسست خصلتها في دهشة فوجدت ملمسها مختلفا عن باقي شعرها فاحم السواد، ما هذا ؟ بدا ملمسها قُطنيا بعض الشيء فيما أن شعرها أملس ناعم، قد يبدو للبعض أن خشونة خصلتها البيضاء هي تعبير فطري عن شعور هذه الخصلة بالغربة وسط غابة من الشعر الأسود، أما هي - أي فوقية هانم - فلقد حاولت أن تتفلسف أكثر وهي تفسر هذه الظاهرة.
***
بالنسبة لها بدت هذه الخصلة الخشنة في رأسها وكأنها جملة اعتراضية على مشاعرها العشرينية الطازجة، جملة اعتراضية قاسية في معناها -هذا صحيح- لأنها تعني أن زمن الشباب ولّى وفات لكن مع ذلك فإن فوقية هانم كانت تحتاج إليها لتفرمل اندفاعها المجنون نحو مباهج الحياة، تحتاج إليها لتُذَكرها أنها ليست ابنة هذا الجيل ولا من أهل هذا العصر وأنها مهما فعلت لن تستطيع أن تندمج فيه أبدا، يكفي أن تنظر لأصابع الصغار وهي تنقر على الكيبورد بسرعة مذهلة ومهارة فائقة لتتأكد أنها يستحيل أن تجاريهم. تلك هي وظيفة خصلتها كما تظن وذلك هو دورها المحسوب، أما هذا البحر /الشعر الأسود فإنه يفسح لها مكانا معتبرا في دنيا الشباب ولم لا يفعل ؟ أو ليس اللون الأسود هو قاسمها المشترك معهم ؟ بلى وهي تتشبث بذلك وتعوّل عليه وتفعل بمقتضاه ما يفعله شباب العشرين، تطربها كلمات الإعجاب وتسعدها هدايا عيد الميلاد ، تذهب للچيم بانتظام وتعطي أهمية كبيرة للقاء الأصحاب، تسافر وتروح وتجئ تلتقط الصور وتُرَاكِم الذكريات، ثم أنها مثل الشباب تظن أن الموت بعيدُ بعيد، الجملة الأخيرة جملة قلقة بعض الشيء فالموت أبدا لا يحصد الكبار وحدهم، والشباب نفسه يعرف ذلك، هي أيضا متأكدة من ذلك لكنها تفترض أن الموت يتعامل مع البشر تنازليا يحصد الأكبر فالأصغر، وهي مازالت شابة بعد .
***
قبل أن تنبت الشعيرات البيضاء في رأس فوقية هانم لم يصدق أحد أبدا أنها لا تتعامل مع الصبغة من قريب ولا بعيد، وحتي بعد أن نبتت تلك الشعيرات في مفرقها ظن الجميع أنها "نيو لوك" كما يقولون رغم أنه كما هو واضح لم تكن لها يد في هذا "اللوك" الجديد، لكن الصورة الذهنية عن المرأة في خريف العمر صورة طاغية ، فامرأة خمسينية هي امرأة لا تتجدد خلاياها ولا تتفتح مسامها، هل مرت بك امرأة سوداء الشعر في مثل هذا العمر؟ حتى لو مرت بك فمرورها عابر لا يؤثر. علي أي حال لم تسمح صاحبتنا لهذه الصورة الذهنية أن تتمكن منها أو تعيد تشكيل نظرتها لذاتها، صممت أنه مهما حدث لن تكون إلا نفسها: مزيج من عُمرين، عمرها التخيلي وعمرها الافتراضي، ساق في العشرين وأخرى في الخمسين، شابة مُغامِرة وامرأة رزينة ، وهذا الشعر الأسود الضام لخصلتها البيضاء هو خير ما يعبر عن حالة البين بين التي تعيش فيها وتستريح لها وتعبر تماما عن شخصيتها ، شاء من شاء وأبى من أبى .
***
لكن دوام الحال من المحال، فمتي بدأ يتغير حال فوقية هانم ؟ كان هذا عندما أخذت تتشكك في أنه حتى لو صح افتراضها أن الموت يتعامل مع البشر تنازليا، فإن هذا يعني أنه ليس بعيدا عنها كما تظن لأنها باختصار لم تعد شابة. كانت تجلس مع صديقتها الأعّز في مكانهما المعتاد في النادي، وكالمعتاد أيضا كانتا ترتشفان مشروب الليمون بالنعناع الذي يجيد عّم أحمد صنعه كما لا يجيده أحد سواه، انهمكتا في مناقشة التفاصيل الصغيرة لزفاف ابنة صديقتها: تاج العروس.. الحلي .. الماكياچ ..الحذاء الساتان، ثم فجأة سكتت صديقتها عن الكلام قبل أن تتم ترتيبات الفرح. لم تبك فوقية هانم حينها فقد جفت كل سوائلها: دمعها وريقها ودمها، المندهش لا يبكي. راحت الخيالات تهرول أمامها وهي لا تحرك ساكنا: خيال عّم أحمد ..خيال من يبدو أنه طبيب .. خيال مدير النادي .. خيالات أعضاء تعرف بعضهم وتجهل آخرين، حتي إذا مر عليها خيال العروس تدفقت سوائلها بغزارة كأنها فيضان .
***
استمرت الشعيرات البيضاء تمثل أقلية وسط غابة الشعر الأسود كما كان الحال دائما لكن هذه الشعيرات تكاثرت وتشعبت يمينا ويسارا ، وكعادة فوقية هانم في فلسفة الأمور بدا لها هذا التراجع النسبي للأسود أمام الأبيض وكأنه انعكاس لتناقص منسوب الشباب في تكوينها النفسي، بالتأكيد هي مازالت تعيش حالة البين بين التي تمزج فيها بين عُمرها التخيلي وعمرها الورقي، فهي امرأة قوية ولها نظرتها الخاصة لنفسها وللحياة، أما قوة انتمائها للعمر المتخيل وشعورها في ظله بالأمان فتلك مسألة صارت محل نظر.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved