قَـــفَش

بسمة عبد العزيز
بسمة عبد العزيز

آخر تحديث: الجمعة 22 سبتمبر 2023 - 7:45 م بتوقيت القاهرة

حضرت مَوقفًا سأل فيه رجلٌ صديقَه خدمةً؛ فلما أبدى الصديقُ بعض التردُّد وبدا وكأنه يُفكر؛ عبس السائلُ وانقلبت ملامِحُه وصاح قبل أن يسمعَ الإجابةَ بأنه لا يريد شيئًا، وأنه قد أخطأ بطلبه، وأن الدنيا لم يَعد فيها خير. تدخلَ ثالثٌ بينهما فانتحى جانبًا بالغاضِب ونصحَه بأن يهدأ قليلًا وبألا يأخذ الموقفَ قفشًا، لكن الأمور تعقَّدت إذ ثار الصديقُ بدوره شاعرًا بالإهانة وتركهما وغادر.
• • •

قد يختار المتكلمُ الغَشْيم من الألفاظ أثقلَها ومن التعبيراتِ أوجعَها، يلقي بها تباعًا في وَجه من يحادثه؛ فإن عجز المُتلقّي عن إيجاد الردّ المُناسب؛ قَفَش في الحديثِ وأظهر الضيقَ الشديد. بعضُ الأشخاص لديهم قدرة هائلة على استيعابِ الآخرين، والبعضُ الآخر سريع الغضب وافر الانفعال، يسهُل استفزازُه ودفعه لارتكاب الحماقات؛ والحقُّ أن الضغوطَ المُتفاقِمةَ تُورث حِدَّة الطباع وتُبرِزها، أما الحلمُ فقرين السَّلامِ النفسيّ، وأما الاعتدالُ فمن شِيَم الأقوياء.
• • •
تقولُ معاجمُ الُّلغة العربية إن الفعلَ قَفَش يعني أخذَ بكامل يده. إذا تناولَ الواحد الأكلَ قفشًا؛ كان المعنى أنه أوَغلَ فيما أمامه وأجهزَ عليه بنهمٍ شديد، أما إذا قفش المدرس الولد بالعصا؛ فالقصد أنه ضربَه. الفاعلُ قافشٌ والمَفعول به مَقفوشٌ، والمَصدر هو القَفْش بتسكين الفاء.
• • •
لا أشهر مِن عبارةِ "اقفش حرامي" التي عجَّت بها الدراما القديمة، خاصةً في عهدِ مشاهد الأبيض والأسود؛ حيث ينطلقُ الناسُ وراء شخصٍ خَطف على الأغلب حقيبةً، ومَعهم يعدو العسكريُّ، وجميعهم يَصيح مُنبهًا السائرين في الطريق؛ ربما يتمكَّن أحدهم من تعطيل الهُروب وإمساكِ الهارب بغنيمته. لم تزل العبارةُ حاضرةً، تطرقُ الأذنَ بين الحين والآخر؛ لكنها تحولت في حقيقة الأمر إلى نوعٍ من أداءِ الواجبِ العلنيّ؛ لا يستجيب لها أحدٌ أو يُوليها الاهتمام، فالحرامي لم يعد طيبًا مثلما كان، إنما على أتمّ استعدادٍ للقتل دون التسليمِ والاستسلام، كذلك لم تعد في النُّفوس حماسةٌ وحميَّة ، وإذ تدهوَرت الحالُ بالقاصي والداني؛ فقد تزايدت عملياتُ النشلِ والسَّرقة وباتت مِن المعتاد.
• • •
إذا تطايرت الأخبار بأن فلانًا قد قفشوه مُتلبسًا؛ ثار الفضولُ وظنَّ الناسُ على الفور الظنون وأكثروا مِن التخمين. ربما شَرعَ المَقفوشُ في الاستيلاءِ على ما ليس له، أو حاول مواراة غير المُباح عن الأعيُن التي تفرضُ الرقابةَ على كل شاردةٍ وواردة، وثمَّة احتمالاتٌ أخرى لا نهاية لها، فيما الثابت أن مَوقفَ التلبُّس مُحرجٌ أغلبَ الأحوال، والمُتلبس لا يُجدي معه دفاع، إذ جِسم الجُرم حاضر والحال لا تحتملُ الجدال.
• • •
إذا قفشَ واحد في ملابس الآخر؛ فتمهيد لمعركة، وكثيرًا ما نَصِف اشتباكًا مفاجئ هاجم فيه واحد الثاني على حين غرَّة بقوْلَة: قفشَ في زُمّارة رقبته. التعبير مجازيّ لكنه قد يصبح واقعًا ملموسًا، فالرقبة جزءٌ حساسٌ، سهل المنال، وقفشُه قد يؤدي لحسم النزال.
• • •
القَفشةُ نوع من المِزاح يتميز بالحِدَّة والتكثيف. غالبًا ما تأتي وليدة اللحظة؛ لا يُرتب لها قائلها ولا يدبر، إنما ينتهز فرصةً عابرةً تصلح للتنكيت، ويستغلها ليُضحكَ الآخرين. اشتهر الراحلُ الساخر محمود السعدني بقفشاته الحارقة، ومثله الساخر الكبير أحمد رجب؛ كلاهما اتسمَ بخفَّة الروح وبالقدرة على التقاطِ الشوارد وتحويلها إلى ضروب من الهزل تُضحِك حدَّ البكاء؛ وما أغزر المواقف التي نلقاها فتستبق دموعنا في الاستجابةِ إليها مع الضحكات.
• • •
قد تتبخَّر المياه أو ينقُص الزيتُ، فيقفشُ مُحرك السيارة وتتصاعد الأدخنةُ مُحذرة من احتمالات الاحتراق. صار الموقفُ متكررًا على عكس ما مضى، فدرجاتُ الحرارة في تصاعدٍ مُخيف، ونقطةُ الغليان في اقتراب، وإذ التفت القادةُ في شتّى البلدان إلى جِديَّة التنبيهات التي تجاهلوها من قبل؛ فربما تأخَّر الوقتُ ولم يعد في الإمكان الرجوع عما وقع مِن أضرار.
• • •
ثمَّة إصابةٌ مُتكررة يعانيها لاعبو كرة القدم، إذ يسقط أحدهم وحده، دون أن يتعرضَ للعرقلة أو الإعاقة، يَصرخ ويتلوَّى ويدرك المشاهدون أن عضلاتِ الساقِ الخلفية التي يُطلَق عليها السمّانة قد قَفشت وتقلَّصت، وأسفرت عن ألم شديد ومثلها تلك العضلاتُ الصغيرة الموجودة في باطِن القدم. غالبًا ما تنتُج الإصابةُ عن إجهادٍ فائقٍ أو تراجُع في مُستوى اللياقة البدنيَّة؛ لكنها قد تحدث أيضًا في الأشخاصِ العاديين الذي لا يمارسون لعبةً رياضية؛ بسبب التعرُّق الزائد وعدم تعويضِ الأملاح المفقودة.
• • •
كثيرةٌ هي الأسباب التي تجعل المرءَ في حال من الضيق؛ وإذ يحاول وصف حالَه لم يجد أفضل من التعبير الشهير: مزاجي قافش، والحقُّ أن المزاجَ بريءٌ فسوءُ الأحوال الاقتصاديةِ ، أمور يجعلُ البالَ مَشغولًا عكِرًا، والأدقُّ والأوْلى أن يُوصَفَ المناخُ العامُ بالقَفْش والتضييق.
• • •
أعرف صديقةً طالما عشِقت البحرَ دون أن تُجيدَ السباحة. تعرَّضت ذات يوم للغَرق ولما خفَّت إليها رفيقتُها تغيثها؛ قَفشت رقبتها وتعلَّقت بها لا تريد أن تتركَها؛ حتى كاداتا تغرقان معًا لولا وصول المُنقذ. يفقد المرءُ قدرته على تقييمِ الأمور ما إن يتعرَّض للخَوف، وكثيرًا ما يتخذ القرارَ الخاطئ مدفوعًا بمشاعرِه.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved