دفاعًا عن الدولة الوطنية فى مصر

إبراهيم عوض
إبراهيم عوض

آخر تحديث: السبت 22 أبريل 2017 - 9:30 م بتوقيت القاهرة

فى دوائر علم السياسة يدور نقاش حول الدولة الوطنية كوعاء لجماعة من الناس تعيش على رقعة من الأرض، وكبوتقة لوعيهم بأنفسهم وباختلافهم عن الجماعات التى تسكن رقعا أخرى تجاورهم أو تبتعد عنهم. النقاش ينصب على نجاح الدولة الوطنية فى تحقيق مصالح هذه الجماعة فى أعلى درجاتها، خاصة فى العصر الحالى الذى تقترب فيه جماعات البشر من بعضها البعض وتنمحى المسافات بينها بفعل التقدم العلمى والتكنولوجى فى وسائط النقل والاتصال. الهدف السامى للنقاش هو التغلب على أوجه النقص فى مفهوم الدولة الوطنية وفى تكوينها، وتفادى العثرات التى وقعت فيها فى كل مكان فى القرنين الماضيين، والاستفادة من نفس التقدم العلمى والتكنولوجى المذكور فى تعظيم العائد الاقتصادى للموارد المادية والبشرية المتوفرة وفى تعزيز الالتقاء بين البشر. تعظيم العائد وتعزيز الالتقاء يُفترض أنهما سيسهمان فى تفكيك الصراعات وفى نشر السلم واستتبابه بين جماعات البشر. فى الواقع العملى، تجربة التكامل الأوروبى، التى وصلت إلى مرحلة الاتحاد الأوروبى، هى التطبيق الأكثر تقدما لتخطى فكرة الدولة الوطنية، هذه الدولة التى أوقعت صراعاتها أوروبا والعالم معها فى أتون حربين عالميتين فى خلال ثلاثين عاما راح ضحيتهما أكثر من ثمانين مليونا من البشر، كما أن التجمعات الإقليمية ودون الإقليمية فى القارات المختلفة هى إرهاصات لتطبيق على مستوى أدنى لنفس فكرة التكامل والذهاب إلى ما هو أبعد من الدولة الوطنية فى تنظيم الجماعات البشرية.
على أن النقاش فى علم السياسة ينبنى على افتراض البناء على ما حققته الدولة الوطنية منذ أن ظهرت إلى الوجود من أربعة قرون مضت، لأنه وإن كانت ثمة عيوب ونواقص فى الدولة الوطنية، فإنها قد سمحت أيضا بتحقيق تقدم هائل فى مجالات عديدة فى واقع حياة الناس وفى مجال الأفكار والمثل التى رفعتها. صحيح أن هذه الأفكار والمثل لم تترجم دائما إلى واقع معاش ولكنها بقيت قاطرة تشدّ جهود البشر وأهدافا أسمى يسعون إلى تحقيقها. والبشر يسعون إلى بلوغ الأفكار والمثل لأنها تعينهم على تعظيم مصالحهم وعلى ترسيخ السلم فيما بينهم.
المناسبة فى الحديث عن الدولة الوطنية هى الهجوم الإرهابى عليها فى مصر. الإرهابيون يهاجمون الدولة ورموزها الذين يدافعون عنها وعن السلم وعن المواطنين فيها. فى مصر مجتمعٌ منذ آلاف السنين نَظَمَ النهرُ حياته وفاض عليه خيرا فأنتج حضارةُ هى فخرٌ للبشر. غير أن الدولة الوطنية، وفى مفهومها الحديث، لم تبنَ فى مصر حجرا فوق حجر إلا اعتبارا من القرن التاسع عشر ثم ترسّخت قانونا بعد ذلك على مراحل، أولا بفك تبعيتها القانونية للدولة العثمانية فى سنة 1914 ثم بإلغاء الحماية البريطانية المعلنة عليها بهذه المناسبة فى سنة 1922، وأخيرا بصدور دستور سنة 1923. هذه الدولة الوطنية فى مصر، كما الدولة الوطنية فى كل مكان، لا يمكن أن تنشأ إلا على مبدأ المساواة وعدم التمييز بين من يعيشون على رقعة الأرض التى تشغلها. لا مراء فى أن هذا المبدأ ليس محترما تمام الاحترام فى كل مكان، ولكنه مثلٌ تبتغى بلوغه الدولةُ الوطنيةُ وإلا فإنها لا تصبح دولةً وطنية. الهجوم على الدولة فى مصر هو هجوم كذلك على نفس فكرة الدولة الوطنية التى ينبغى أن يتساوى كل من يعيشون على أرضها أيا ما كانت دياناتهم وأعراقهم وأصولهم الاجتماعية وآراؤهم السياسية وأيا ما كان جنسهم. الهجوم الإرهابى على الدولة واضح لا يحتاج إلى بيان فى الاعتداء شبه اليومى على القوات المسلحة والشرطة خاصة فى شبه جزيرة سيناء. والاعتداء على الدولة الوطنية بنفس الوضوح والجلاء فى الهجمات الإرهابية على كنيستى مار جرجس ومار مرقس فى طنطا والإسكندرية، ثم على دير سانت كاترين، ومن قبل ذلك على الكنيسة البطرسية فى القاهرة ومنذ سنوات على كنيسة القديسين فى الإسكندرية أيضا، كما أن التحرش بالدولة الوطنية بيِّنٌ فى رفض تعيين مواطن قبطى محافظا هنا ومواطنةً قبطية ناظرةً لمدرسةٍ هناك، وفى منع المواطنين الأقباط من الصلاة فى هذه القرية أو تلك وفى تهجيرهم منها.
***
هل يمكن الحفاظ على الدولة وحدها مع إسقاط صفة الوطنية عنها؟ إن افترضنا أن ذلك ممكنٌ، فإن الدولة ستتحوّل لا مناص إلى دولة عرقية أو دينية، وفى حالة مصر فإنها ستصير دولة دينية ولا فكاك من ذلك. هذا هو بالضبط الهدف الذى يسعى الإسلام السياسى إلى تحقيقه منذ العشرينيات من القرن العشرين وذلك لأن الجوهر فى فكره هو الرجوع فى كل التطور فى التنظيم السياسى والمجتمعى الذى خاضته مصر منذ العقود الأولى من القرن التاسع عشر. الرجوع إلى ما قبل القرن التاسع عشر هو أفضل التقديرات لأن السلفية، ونسبتهم إلى الإسلام السياسى ليست تجاوزا، يريدون العودة بالعلاقات بين البشر إلى أربعة عشر قرنا مضت دون اعتبار للتطور المعرفى، العلمى والتكنولوجى، الذى يحكم هذه العلاقات ويحدد طبيعتها وشكلها.
المسئولون عن الدولة لا بدّ أن يدركوا أن الدولة فى مصر إما أن تكون وطنية وإما أن تكون دينيةً ولا حلّ وسط بينهما. إن لم يدافعوا عن الدولة الوطنية، وليس الدولة فقط، فإن المآل هو دولة دينية تتحلل من بعد إلى لا دولة. إستراتيجية الإرهاب، وداعش تحديدا، صارت واضحة فى العالم الخارجى وفى البلدان الإسلامية ويهمنا منها فى مقامنا هذا مصر. فى الخارج هى الوقيعة بين المسلمين الأقلية وغير المسلمين الأغلبية، واستعداء الأغلبية على الأقلية المسلمة حتى تهب هذه الأخيرة دفاعا عن نفسها ومعتنقةً أفكار داعش. وإستراتيجيته فى مصر هى مهاجمة المواطنين الأقباط واستفزازهم حتى تحدث الوقيعة بينهم وبين المواطنين المسلمين فيتمزق النسيج الاجتماعى ويتسع مزقه حتى يتفكك النسيج وتتحلل الدولة معه.
الدفاع الفعلى والفعّال عن الدولة الوطنية واجب على المسئولين عنها خاصة وأنهم يعلنون ويكررون فى مصر وفى خارجها تمسكهم بها. غيبة الدفاع الفعلى والفعّال عن الدولة الوطنية هو تحقيق للهدف الجوهرى للإسلام السياسى. هل هذا هو ما يريده المسئولون؟
محاربةُ الإرهاب بنفس سلاحه واجبةٌ، أما مواجهة الإسلام السياسى فاللجوء إلى ممارسة القوة فيها لا بدّ أن يتناسب مع العنف الذى يمارسه، وغير العنيف فيه يواجه بأساليب السياسة العديدة والمتنوعة من حوار وتربية وانفتاح وتشجيع للتعددية وتسليم بنسبية الأفكار وعدم إطلاقها.
***
من أجل الدفاع الفعلى والفعّال عن الدولة الوطنية، ماذا فعلت الدولة لحماية الموطنين الأقباط فى قراهم؟ لم يصبح فى الوقت متسعٌ لمزيد من التسويات العرفية. آن الأوان للعودة إلى القانون وتحكيمه، وفى هذه العودة حماية ليس فقط للمواطنين الأقباط بل صيانة للدولة ذاتها. الدولة التى تهدر قانونها تقوض الدعائم التى تقوم عليها. وما الذى صنعته الدولة بعد أن تراجعت عن تعيين المواطن والمواطنة قبطيى الديانة محافظًا وناظرةً لمدرسة؟ هل اكتفت بهذا التراجع ورضيت بهزيمتها أمام أعداء الدولة الوطنية أم أنها وضعت سياسة تطبقها خلال سنتين أو ثلاث أو خمس تستطيع بعدها أن تنجح فى تعيين المحافظ والناظرة؟ إن لم تكن قد فعلت، ولم يسمع أحدٌ أنها فعلت، فقد آن الأوان لأن تنفض عن نفسها دعتها وأن تتحرك بعزم ومن قبله بالخيال الذى تستدعيه السياسة. وألم يحن الوقت لكى تكف الدولة والمتحدثون باسمها عن حديث «الأخوة الأقباط» وكأنما المخاطب بالحديث هم الأصل، المواطنون المسلمون، الذين يحدِّثهم المتحدث عن أخوة لهم ليسوا هم الأصل. ماذا إن كان القارئ أو المستمع إلى الحديث قبطيا، وهو بالفعل يقرأ ويستمع لأنه يعيش على نفس الأرض؟ هل يحدّثه المتحدث عن «أخوته الأقباط؟» هذا ليس فقط عبثا بل هو خطر على المجتمع وعلى العيش السلمى فيه وعلى الدولة.
مواجهة الإرهاب المسلح ليست كافية لدحره طالما بقى الإرهاب المعنوى والفكرى يرتع فى تحديه للمواطنين وللدولة. يذهب باحثون جادون ولامعون إلى أن برامج التعليم، سواء الأزهرى منها أو العام، ليست مسئولة عن الإرهاب وعن تنشئة الإرهابيين. وليكن. ولكن عندها سينطبق هذا على الإرهاب المسلح وحده. أما الإرهاب المعنوى والفكرى والمسئول عن التهجير وعن الحيلولة دون ممارسة الشعائر وعن التراجع عن تعيين هذا المحافظ وتلك الناظرة فهو يتغذى على برامج التعليم المذكورة كما يرفده خطاب الكراهية والازدراء الذى يبثُ دون رادع ولا مانع. إصلاح برامج التعليم وإسكات خطاب الكراهية والازدراء ضروريان لدحر الإرهاب المعنوى والفكرى الذى لا تقلّ خطورته على الدولة الوطنية عن خطورة الإرهاب المسلح وإن كان أكثر خبثا فى تغلغله المكتوم فى المجتمع. ولتكن هذه مناسبةً لأن يُذكرَ أيضا أن هذا الإصلاح وهذا الإسكات واجبان حتى لا يفاجأ المسئولون عن الدولة يوما بمساءلة دولية عن سبب عدم تطبيقها لأحكام كل من اتفاقية القضاء على جميع أشكال التفرقة العنصرية والعهد الدولى للحقوق المدنية والسياسية التى تلزمها بمكافحة التمييز وخطاب الكراهية وبتحقيق المساواة بين البشر، ليس فقط على الصعيد القانونى وإنما كذلك فعليا فى واقع الحياة اليومية.
الدفاع عن الدولة فى مصر لا يستقيم بغير الدفاع الفعلى والفعّال عن الدولة الوطنية فيها.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved