«خيط وهمى».. الحب هو القوة الحقيقية

محمود عبد الشكور
محمود عبد الشكور

آخر تحديث: الخميس 19 أبريل 2018 - 9:00 م بتوقيت القاهرة

يبدو لى فيلم «phantom thread»، بعنوانه المجازى الذكى الذى يمكن ترجمته بتصرف إلى «خيط وهمى»، أقرب بكثير إلى أفلام رسم الأفكار والحالات والأجواء والشخصيات منه إلى أفلام الحواديت التقليدية، الفيلم الذى كتبه وأخرجه بول توماس أندرسون، وقام ببطولته دانييل داى لويس، محوره قصة حب، ولكنها حكاية خاصة، وأبطاله شخوص ليس من السهل أن تجد مثيلا لهم فى كل زمان ومكان.

أما المكان، وهو دار للأزياء فى بريطانيا فى خمسينيات القرن العشرين، فهو أيضا مكان خاص فى تفاصيل وطقوس العمل، وفى العلاقات بين أصحابه، وفى زبائنه من الطبقة من سيدات الأسر المالكة، ولكن المعنى وراء الفيلم أيضا أكبر بكثير من محاولة ترويض بطل الفيلم ليعيش حياة أكثر طبيعية، إنها علاقة جدل مستمرة بين قوة الشخصية والطبع، وسحر الحب والعاطفة، بين التحقق بالعمل والفن، والتحقق بالعلاقة الإنسانية، بين مقاييس الباترون الجاهز، وبهجة الخبرة العفوية المباشرة.

وفى النهاية، ينتصر الفيلم بالطبع لقوة الحب، يراها القوة الأبقى والأهم، بل إنه يرى فى الضعف الإنسانى جمالا، وفى النقص البشرى واقعا، نحن قادرون أن نصنع أثوابا مكتملة، ولكن علينا ألا نتوهم أننا كائنات كاملة، هذا هو معنى تلك القصيدة السينمائية التى يظلمها كثيرا أن نستقبلها كقصة لها بداية ووسط ونهاية؛ إذ أنها أبعد ما تكون عن النهايات، إنها ببساطة تأمل مستمر فى قوة الحب، فى مقابل قسوة الواقع، وتأمل فى شخصية الإنسان والفنان خصوصا، بين الكمال والضعف.

مفتاحا الفيلم هما «القوة»، و«الحب»، النماذج الثلاثة الأساسية أقوياء الشخصية إلى درجة مخيفة: رينولدز وود كوك مصمم الأزياء الشهير والناجح، رجل منظم ودقيق، تعلم المهنة منذ نعومة أظفاره، هو أيضا فنان مبتكر، لا يجرحه أكثر من أن تقوم إحدى زبائنه بالانتقال إلى دار أزياء أخرى، هو أيضا يعشق عمله، ويتحقق به، لدرجة أنه أضرب عن الزواج حتى لا يشعر بالخيانة.

والشخصية الثانية المقابلة هى «آلما» التى تعمل فى مطعم صغير، تقع فى حب رينولدز، ويحبها هو ربما لأنها عكسه على طول الخط، العامل المشترك الوحيد هو قوة الشخصية، «آلما» الفقيرة التى تتصرف على طبيعتها، وتبدو مقاييس جسدها أبعد ما تكون عن المقاييس المثالية، تحب رينولدز على طريقتها هى، وليس على طريقته هو، وهى التى ستغير حياته وتعيد رسم الباترون الذى صنعه لنفسه، بل إنها ستغير نظرته لما يصنعه، فتحرضه على استرداد فستان اشترته سيدة ثرية لا تعرف قيمته.

«آلما» تراه فنانا بينما يراه المجتمع الأرستقراطى صانعا للبهجة والإبهار، ولا يليق بفنان ألا يعشق، ولا يليق به أن يكون سجينا لعمله، «آلما» رأت رينولدز من الداخل، أدركت أن وراء الثقة ضعف، ووراء القوة خوف.

أما الشخصية الثالثة القوية فهى «جوانا»، شقيقة رينولدز، وهى شريكة عمله ونجاحه، إنها تنويعة أخرى على القوة التى تفتقد الحب، لم تتزوج مثل أخيها، ولذلك ستجد فى آلما فرصة لإنقاذ أخيها من الوحدة، حبها لأخيها ولآلما عنصر أساسى فى الدراما، وتبدو أحيانا بديلة الأم الراحلة التى ارتبط بها رينولدز طوال حياته، والتى ظلت بجوار قلبه بعد وفاتها، وستظهر له الأم أيضا وقت المرض.

لن يكون زواج آلما من رينولدز هو النهاية؛ لأن القوة صارت طبعا، ولأن النجاح أصبح إدمانا، ولأن مصمم الأزياء اعتقد أن كمال الفن يعنى كمال الفنان، وتوهم أن الباترون يمكن أن يكون على مقاس الحياة بأكملها، صار رينولدز قطارا لا يقف على محطات العواطف، ولم يكن ممكنا أن تسترده آلما إلا بأن تعيده طفلا ضعيفا من جديد..

واقتنع هو بأن ذلك هو الحل الوحيد: أن ينقذه الحب من ضعف الجسد والروح، وأن يدرك أن سحر الحب هو زاد الفنان، وهو وقوته الحقيقية، وليس أى شىء آخر، بالحب وحده يتحقق كماله الإنسانى والفنى، وبالحب وحده سترى آلما المستقبل: طفلا ستنجبه من رينولدز، وفنا ستساعد زوجها عليه فى دار الموضة والجمال.

الفيلم مثل لوحة أنيقة، كل شىء مرتب ومنظم، الأزياء والديكورات وحركة الممثلين المحسوبة جعلتنا داخل معرض خيالى، ولكنه يبدو معرضا ميتا قبل ظهور «آلما»، وعلى شريط الصوت مقطوعة بديعة كتبها جونى جرينوود تعبر وترسم الحالات النفسية التى يمر بها رينولدز، وجهه جامد وكأنه يخشى فى مشاهد كثيرة أن يفضح ضعفه، فتنوب عنه الموسيقى فى البوح.

الموسيقى فى هذا الفيلم شريك أساسى فى التعبير، إنها المعادل العاطفى، وترجمان المشاعر الداخلية، لم أستغرب من قدرة دانييل داى لويس المعروفة على فهم الشخصية والتفاعل معها، أحسست أنه يراها تعبيرا عن حياته هو كفنان حائر بين القوة والعاطفة، بين النجاح المهنى والبحث عن الحب، رشح عن دوره لأوسكار أفضل ممثل 2018.

أمامه ممثلة مدهشة حقا هى فيكى كريبس التى كانت راسخة الأداء أمام مشخصاتى قدير، إنها تمتلك أيضا تلك البساطة، وهذا القبول المكتسح الذى يجب أن تظهر عليه شخصية «آلما»، ثم إنها امرأة عاشقة فى كل الأحوال، عيونها تقول ذلك حتى وهى تتحدى صلف رينولدز، وهى تبدو أيضا بديلة للأم فى مشاهد مرض حبيبها.

«الخيط الوهمى» فى هذا الفيلم هو أن نرتبط بالعالم من خلال العقل فحسب، أن نتجاهل العاطفة، وأن نظن أن العالم المرتب الأنيق بديل عن طبيعة الإنسان وعفويته، الملابس الأنيقة فن جميل، ولكن الأجمل هو الإنسان الذى يرتديها، ولا تناقض أبدا بين أن تكون فنانا، وبين أن تكون إنسانا حقيقيا، بكل لحظات ضعفه وقوته.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved